زين العابدين الأمين.. متصوّف الألوان المنتهية إلى اللاشكل

يعدّ زين العابدين الأمين أحد الأسماء الشابة في عالم التشكيل المغربي، وهو الذي شقّ اسمه بثبات وعطاء مُبتكر ضمن ما بات يصطلح عليه اليوم بالموجة الجديدة التي لا ترى بوجود مسار محدّد يؤطّر المنجز الفني، بل تجعل من الانفتاح على استدراج مختلف الوسائل والأجناس في تداخل بينها، أساسا ومنطلقا تعتمده في ما تتبنّاه من حداثة.
تُعدّ تجربة الفنان المغربي زين العابدين الأمين امتدادا طبيعيا لتجارب تشكيلية كانت الأساس لفكرة الفن التجريدي في المنطقة العربية.
والمغرب بلاد التنوّع الثقافي والزخم المعرفي والفني في الموروث الأصيل لفن ضارب في عمق التاريخ متكئ على حضارات عريقة وذات صفات مميزة لموقعها الجغرافي الواقع على ثلاث جهات من العالم، بين عمق الحاضنة الأفروعربية ومحاذاة أوروبا حضارة عصر النهضة وما بعدها وفي وجهة المحيط وما وراءه من الحضارة الجديدة، أميركا، التي كانت قد ساهمت في تشكيل مفاهيم الفن الجديد بعد أن أصبحت وجهة أغلب الفنانين من أوروبا وكل قارات العالم الأخرى، فغدت المكان الذي تكرّست فيه كل المدارس الحديث لفنون ما بعد الحرب العالمية الثانية وكل الحركات الرائدة في مجال فن الرسم الحديث.
تجريدية تشخيصية
التجريدية هي وجهة المغربي زين العابدين الأمين في تجربته الفنية مع ملامح تشخيصية تظهر على استحياء في أغلب أعماله، والتي تتّخذ من الحشود المصطفة في حالة المسير ثيمة أولى في عبورها أبواب الانعتاق في بعض الأحيان تحيطها أسلاك شائكة تمنعها من الحركة، وفي أحيان أخرى تتحوّل إلى حجارة صمّاء، وهي في ذلك كأنها محاولة للعودة إلى مناطق جغرافية جمعت التاريخ بأسره في قصص وحكايات، فتوحات وحروب، أقواس وقباب، أسبلة وأزقة ظليلة تتسلّل إليها إضاءات بدايات النهار.
مساجد، كنائس وأديرة، بيوت بيضاء وظلالها البنفسجية النائمة على خدّ المحيط الأطلسي ذات الطابع المغربي الأصيل، قلاع وحصون من زمن الأدارسة إلى ما قبله من حضارات الأوّلين متعاقبة عبر الآلاف من السنين أصبحت متاحف مفتوحة لمخيلة الفنان ومصادر الإلهام عنده، بحث بمثابة تجوال وفسحة تشكيلية للمنجز العالمي والموروث الفني المحلي الذي تشكّل في منتصف خمسينات القرن الماضي من جماعة مدرسة الدار البيضاء.
ابتعد الفنان عن محاكاة البنية القديمة بشكل مباشر كعملية “النسخ واللصق” كما فعل الكثير من الفنانين بأسلوب المدارس التقليدية الأولى، أو تلك التي تنازلت أكثر لأصحاب الذائقة الهابطة وأصبحت أعمالهم من مقتنيات متاجر السواح والنسخ الصينية المتعدّدة، بل كانت أعماله دائما حاضرة في المناطق الطازجة ذات التزيينية الروحية.
تناول قصصه بمنظور يتحرّك وفق منطق جوّاني يعتمد على حساسية فنية جديدة مع خبرة ومعرفة متراكمة عبر سنوات من العمل والتواصل مع تجارب الآخرين بمختلف اتجاهاتها، خصوصا التجارب الأوروبية وما تحمله من حداثة، فمحسّناته التشكيلية التي اعتمدها في عمله حديثة المنشأ، والتي لا يتواصل معها إلاّ أصحاب المعارف والفهم التشكيلي الحديث في أساليب مدرسة التجريد، وكانت المغرب من أهم البلدان التي تبنتها في أوقات مبكّرة عندما ظهرت إرهاصاتها الأولى في منتصف الخمسينات من القرن الماضي بأبطالها الأوائل من الفنانين المغاربة أمثال الجيلاني الغرباوي وأحمد الشرقاوي.
اقترب أكثر من العمل الذاتي والمنجز الفردي المبتكر، وكانت للمدوّنات الإسلامية والمنمنمات والرسومات المصوّرة التي تصنع شكلا منضبطا ومتوازنا وشيئا من السيمترية (التماثل) والتكرار في بعض أعماله الفنية نصيب منها بشيء من التحرّر وحرية الأداء والملامح الفطرية في أشكاله المرسومة في دوائر ومرّبعات تتّخذها إطارا لأعماله، لتقترب من المدونات المرسومة في المورث الشعبي القديم على السجاد والأواني الفخارية والزليج المغربي في المساجد والمنازل العتيقة، فيحاكيها بأنفاس جديدة تعبّر عن روح عصرها بقصص الزمن الراهن وحكاياته.
النهل من ثقافتين
أعمال الأمين الفنية مناخات لونية متعدّدة تحتفي بثقافة المادة من جهة، والأثر المتروك من فرشاة الرسم في أعماله هي نتيجة حتمية للثراء البصري عنده وعمله المتواصل في حقل التجريب من جهة أخرى، حيث تتجاور مناطقه الفنية بآخر منجزات فن الرسم في الأساليب الغربية مع الحفاظ على أنفاس زكية من الموروث المغربي الأصيل، كأنها خلاصة القول في اختزال الأفكار والتلوين بفرشاة زاهدة في الاستعراض والمهارة غير المبرّرة، تتكئ على نماذج داخلية من صور أحلام محفوظة ودهشة شعر خافتة مُضاءة على شطآن بعيدة تلوح أمام أنظار مراكب الصيد التائهة والباحثة عن النجاة في غمرة عاصفة عالم اليوم.
يعتمد الفنان على مفردات تشكيلية حديثة من القاموس العالمي، الفن الراهن في أوروبا وأميركا، ويضفي عليها مفردات مغربية ورموزه المحلية ويدعمها بهياكل بنائية تشبه خطوط مثلثات مدن المغرب وأقواسها وانحناءاتها في تكوينات مبتكرة تصنع لوحات جديدة في إضافة للمشهد المغربي المفعم بحيوية التجديد من الفنانين المغاربة الشباب أصحاب الموجة الجديدة في فن الرسم.
والفنان زين العابدين الأمين من مواليد الدار البيضاء سنة 1976، تعلّم ودرس بها حيث التحق بمدرستها وتحصل على شهادة البكالوريوس شعبة فنون تشكيلية بتفوّق، وتجوّل في مراحل تجريبية عبر مدارس وأساليب وتوجهات فنية عالمية ومحلية كنوع من البحث عمّا يناسبه واكتشاف مناطقه الظليلة الخاصة بذائقته ورؤاه التي أصبحت واضحة المعالم في تجربته الراهنة بعد عمل مضن وبحث متواصل واطلاع واسع، تلك التجربة التي تنتمي إلى الموجة الجديدة من الرسامين المغاربة الشباب ذات الخصائص الأصيلة والمعاصرة في آن والتي تميزهم الثقافة الرفيعة في تكوين تجاربهم.
الأمين يعتمد على مفردات تشكيلية حديثة من القاموس العالمي، ويضفي عليها مفردات مغربية برموزه المحلية
مناخ الأسرة التي ينتمي إليها الفنان ساعد على تشكّل وعيه المبكّر في الفن التشكيلي، حيث أن الكثير من أفراد عائلته كانوا من الذين تحصّلوا على شهادات في الفنون التشكيلية ولهم علاقة وطيدة بهذا المجال، فكان من الطبيعي لفرد يحمل في روحه بذرة الفنان أن ينمو في تربة مناسبة جدا مع مجهود الفنان الشخصي في التحصيل العلمي في هذا المجال مع العديد من الورش والدورات التدريبية الأخرى التي بلورت تجربته التشكيلية.
كان أول معرض للأمين سنة 1997، ومن بعدها توالت مشاركاته الدولية خارج المغرب، إضافة إلى تنظيمه عددا مهما من الملتقيات الدولية داخل المغرب وخارجه جمع فيها العديد من التجارب الفنية المهمة من بلدان العالم إضافة إلى البلدان العربية الأخرى، ومن أهمها ملتقى إبداع الطالب الدولي المنظم من قبل جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء، حيت شارك في إدارته لمدة ثلاث عشرة سنة، وكذلك الإقامة الدولية للفنانين التشكيلين سنة 2014 ببوزنيقة، ثم الإقامة الدولية للفن التشكيلي لأزمور سنتي 2013 – 2015، وآخرها بينالي ساريا بإسبانيا.
وللفنان العديد من المعارض الفنية الفردية، أهمها تلك التي احتضنها رواق ديلاكروا بطنجة، ورواق محمد الفاسي، ورواق باب الكبير، ومؤسسة محمد السادس بالرباط، ورواق نظر بالدار البيضاء في خمس نسخ، وآخرها معرضه “امتلاء” برواق نظر للفن الحديث 2020.
