إطلالة مضيئة من بيت إسكندر على التجارب التشكيلية الليبية

مؤسسة تدعم الفن الليبي مثمنة تجارب الرواد والمعاصرين.
الخميس 2024/12/05
مشهد يومي من ليبيا (لوحة: عبدالرزاق الرياني)

المؤسسات الفنية الخاصة قليلة في ليبيا لكنها فاعلة ومؤثرة، من بينها بيت إسكندر الفني الذي استطاع خلال خمس سنوات فقط من عمره أن يتحول إلى وجهة فنية وثقافية تجمع بين صالاتها تجارب تشكيلية ليبية رائدة وتوفر فضاء للنقاش الحر الذي يعزز التفاعل بين الفنانين الليبيين فيما بينهم وبينهم وبين فنانين عرب.

بيت إسكندر للفنون من المؤسسات التي بدأت تأخذ مكانها بين قاعات العرض القليلة في ليبيا التي ما زالت مستمرة في العرض والعطاء، من أجل توفير مناخ مناسب للحدث التشكيلي خاصة والثقافي عامة. يقع البيت الفني في أجمل مناطق ليبيا، تحديدا بالمدينة القديمة بالعاصمة طرابلس بزنقة الفرنسيين أين تلتقي كل الطرق عند عتباته. كما مرت كل الحضارات على هذه الأزقة القديمة، من الإمبراطورية الرومانية وحكم البيزنطيين إلى الفتوحات الإسلامية وبعدها الدولة العثمانية وصولا إلى فترة الاحتلال الإيطالي، حيث تراكمت العديد من الثقافات التي صنعت تنوعا في المذاق العام للمدينة وذائقة حضارية لسكانها، ومناخا متوسطيا لتضاريسها.

يمتلك البيت الفني إطلالة على ميدان السيدة مريم، بالقرب من مرافئ طرابلس الحاضنة للمراكب مختلفة الألوان والأحجام مع حركة دؤوبة من الصيادين أثناء عملهم المتواصل الشاق بالليل والنهار أو فترات الراحة القصيرة في مقاهي البحارة والعمال والناس البسطاء، في عمل فني دائم التجدد والتغير حسب الحاجة لكل من يعيش هذا المشهد ويشارك في صناعته والمناخ المتجدد في اضطرابه وهدوئه، عبر فصول السنة المتعاقبة. وعمر هذه المؤسسة خمسة أعوام حيث تأسست في عام 2019.

بدأ بيت إسكندر للفنون في تنظيم العديد من المعارض التشكيلية الفردية والجماعية والملتقيات الفنية والورش الأخرى، لمحاولة جمع الفنانين التشكيليين الليبيين والدفع بالتشكيل الليبي إلى الأمام، حيث كشف النقاب عن تجارب تشكيلية رائدة لأول مرة وسلط الضوء على أعمال فنية لم يشاهدها الجمهور الفني منذ رحيل أصحابها، والكثير منها لم تعرض من قبل كمجموعة خاصة احتفظ بها أهالي الفنانين الراحلين الرواد، ومن بين هذه التجارب، أعمال الفنان الليبي عبدالمنعم بن ناجي.

◙ معارض وفعاليات تعزز الحراك الفني في ليبيا
◙ معارض وفعاليات تعزز الحراك الفني في ليبيا

كذلك تزينت قاعات بيت إسكندر بالعديد من التجارب التشكيلية الأنيقة التي كانت لها دور مهم في تشكل المشهد التشكيلي الليبي المعاصر، ومن بين المعارض المميزة كانت تجربة الفنان بشير حمودة في معرضه “آفاق” الذي جاء كخلاصة تجربة إنسانية فنية مدركة لعملها ومحيطها طيلة 50 سنة، وبعض التجارب الأخرى الجادة والمهمة في مدونة التشكيل الليبي مثل الفنان يوسف فطيس ونجلاء الفيتوري في معرض “نداء الماء”، وأيضا تجربة الفنان جمال الشريف في معرضه الأخير “دمى” المعرض المعاصر جدا والمتخصص في فن الأوبجكت والنحت والذي كان عرضا للإتقان والمعرفة التشكيلية في آن واحد.

واستضاف هذا البيت الفني العديد من الفنانين الضيوف لإقامة ورش وندوات وأمسيات حول أسس تعليم فن الرسم ومناقشة قضايا الفن التشكيلي في ليبيا وتونس، كل هذا بمثابة إطلالة مضيئة على الفن التشكيلي الليبي وله الأثر الإيجابي الكبير من حيث جودة الإنتاج والرصد الصحيح للتجارب الرائدة وإحيائها وتقديمها للتجارب الجديدة والجادة والدفع بها.

كما صدر كتاب بمناسبة الذكرى التأسيسية السنوية الخامسة لبيت إسكندر، وجاء هذا الإصدار أنيقا يتضمن العديد من صور الأعمال الفنية التي عرضت في معارض فردية وجماعية وورش فنية قدمها فنانون من بلدان عربية، إضافة إلى فنانين ليبيين متميزين في مجال فن الرسم والطباعة والنحت وغيرها من الأحداث الفنية الأخرى والتي اتخذت في الكثير منها صورة الفنون المعاصرة مثل ورش طباعة.

وتجاوز هذا الكتاب أن يكون كتالوغا توضيحيا للحراك الفني والثقافي للمؤسسة الفنية فحسب بل أصبح يعبر عن جزء كبير من الحركة التشكيلية الليبية وأعطى أجمل صورة في ظل شح المطبوعات والكتب الفنية التي ترصد التشكيل الليبي، وأصبح الكتاب مرجعا تشكيليا للعديد من المهتمين والدارسين من ليبيا وخارجها.

قاعات بيت إسكندر تزينت بالعديد من التجارب التي كان لها دور مهم في تشكل المشهد التشكيلي الليبي المعاصر
◙ قاعات بيت إسكندر تزينت بالعديد من التجارب التي كان لها دور مهم في تشكل المشهد التشكيلي الليبي المعاصر

وفي الوقت الذي تطرق الكتاب للفعاليات الثقافية والمعارض والورش المرفقة بالصور التي رصدت كافة حصاد السنوات الماضية من منجز فني رفيع، جاءت توطئة الكتاب بأقلام نخبة من النقاد والكتاب والمهتمين بالشأن التشكيلي الليبي، والكلمة الأولى جاءت من مؤسس بيت إسكندر الأستاذ مصطفى إسكندر بمثابة ترحيب بالتجارب الفنية وتأكيد على ما تم إنجازه في فترة وجيزة من نجاحات داخل ليبيا وخارجها عبر الشراكة مع مؤسسات ثقافية وفنية أخرى، ومن ضمن ما قاله “بيت إسكندر للفنون يعد حاضنة للفن الليبي ومنصة للرواد الليبيين وبفضل الله نجحنا خلال فترة زمنية مهمة في تعزيز الفن والثقافة في بلادنا حيث قمنا بتنظيم العديد من المعارض الفنيّة في أروقة البيت، هذا بالإضافة لتنظيم مسابقة سنوية وورش عمل لدعم وتشجيع الفنانين الناشئين في بداية مسيرتهم الفنية.”

أما الأديب والناقد منصور بوشناف، فجاء في كلمته “لم ينل الفن التشكيلي الحديث في ليبيا الاهتمام الذي يستحق منذ بداياته، وظل يعتمد على جهد الأفراد وبالتحديد الفنانين أنفسهم، لم تنشأ مؤسسة حكومية أو أهلية لتكون حاضنة لهذا الفن، ليظل غريبا لا بيت يحضنه.” وتابع “بیت إسكندر كان التجربة الجديدة والحاضنة لهذا الفن، والتي انطلقت ومنذ البداية في عرض وتقديم إنتاج الفنانين الليبيين وتجاربهم. تجربة بيت إسكندر تأتي أهميتها في كونها مؤسسة أهلية تعنى بهذا الفن وتمارس نشاطها بوعي عبر إقامة المعارض الجماعية والخاصة، تلك المعارض التي تهتم بتقديم أعمال الرواد وأعمال الأجيال الجديدة لترسم صورة شاملة لغالبية التجارب التشكيلية الليبية الحديث.”

ومن الورش الفنية المميزة والتي كانت لبيت إسكندر مساهمة في إنجازها مع جهاز إدارة المدينة القديمة والمركز الليبي لفن الطباعة اليدوية، نذكر مشاركة مجموعة من الفنانين عبر جهد جماعي وحدث تفاعلي مهم داخل المدينة القديمة، وتم تجهيز أطول طبعة محفورة على الخشب: مطبوعة “أم السراي” بطول 8 أمتار وعرض 1.20 متر، إلى جانب العديد من المعارض التي أضفت الكثير من المنجزات الجمالية إلى مدونة التشكيل الليبي. بالإضافة إلى كل ذلك يقيم البيت الفني العديد من الأمسيات الشعرية والثقافية الأخرى التي تنظم كنوع من المساهمة في تفعيل دور المؤسسات الخاصة التي أصبح لها الدور الريادي في صناعة المشهد الفني والثقافي في ليبيا، والخروج خارج أسوار القاعات والمساهمة في الاحتفالات والأحداث الفنية بالمدينة، ومن ضمن المؤسسات التي ما زالت مساهمة بشكل كبير ومؤثر في المشهد التشكيلي والثقافي، دار الفنون وحوش محمود بي ودار الفقيه حسن بالمدينة القديمة طرابلس وبراح الثقافة بمدينة بنغازي.

الفن حرفة

14