زوجان إيرانيان يخطان نصين بصريين لمأساة واحدة

الغياب مد أشرعته الكئيبة في صالة "آرت لاب" في العاصمة اللبنانية بيروت عبر معرض إيراني فني مشترك للفنانة فاطمة باشا وزوجها الفنان إحسان أرجمند، وإلى جانب كونه معرضا يحاكي مشاعر الفقد والحزن العميق المُترتب على غياب شخص حبيب، هو معرض نموذجي لناحية تقديمه لنصّين مغايرين تماما أمام مأساة واحدة ومشتركة.
الجمعة 2017/07/21
هامات نابضة بالألم

بيروت – الغائب/الحاضر في معرض الثنائي الإيراني فاطمة باشا وزوجها إحسان أرجمند، والذي تعرضه حاليا صالة "آرت لاب" البيروتية، هو شقيق الفنانة الذي قضى في ظروف لم يتطرق إليها كلا الفنانين، مما جعل التعبير الفني أكثر عمقا وصمودا أمام أي تأويل تبخيسي يردّ الأشياء إلى محض "عاديتها"، فحصرها في فترة زمنية وجغرافية محددة.

ويمكن لهذا المعرض أن يحمل عنوان "في اليوم الذي تلى"، لأنه يعرض سلسلة من التفجرات الداخلية الفنية التي تبدو من شدة تعبيريتها، كأن لم يمرّ عليها قبل تشكلها أكثر من بضعة أيام، غير أن المسطحات التي احتضنتها كان عليها أن تنتظر أكثر بكثير من أيام معدودة لكي تتمكن من أن تتلقى الشحنات الشعورية التي بدت كلها، مع الاختلاف في الأسلوب، طرية كجرح نازف يأبى أن ينغلق ويرحم حامليه.

تختلف أعمال الفنان إحسان أرجمند اختلافا كبيرا عن أعمال الفنانة فاطمة باشا، أغلب الظن أن هذا الاختلاف لا يعود إلى فارق منسوب الشعور تجاه المأساة المشتركة بقدر ما يعود إلى الفرق بين الشخصيتين، شخصية أرجمد وباشا، وكيفية تعاطيهما مع حالة الفقد.

ليس هذا فحسب، إذ يفضح هذا المعرض كيف تقوم العين الداخلية التي يتمتع بها كل فنان بانتقاء ذاتي محض للصور والذكريات وكيفية تظهيرها بعد أن تنضج شعوريا وذهنيا، فترجمتها بنص بصري يحلق في سماء خاصة لا يشاركه فيها من شاركه عمق المأساة وتداعياتها.

وإحسان أرجمند من مواليد 1982، تلقى دراسته الفنية في النحت والرسم من جامعة طهران، ونال لاحقا ماجستير في الفنون من الجامعة ذاتها، وله مشاركات في العديد من المعارض داخل وخارج إيران، أما معرضه الأخير هذا في صالة "آرت لاب" فتأكيد على أسلوب فني طوره خلال سنوات قليلة قبل أن تجيء الفرصة المأساوية التي ظهّرت بوضوح مزاجه الفني واحتمالات تطوره في مسارات محددة غارقة بالحسيّة.

وقدم أرجمند في هذا المعرض لوحات بدت وكأنها انتقاءات وامضة للحظات وحوادث بسيطة عاشها مع الفقيد، وفي بعض اللوحات يرتقي خطابه الفني إلى مستوى وجودي فلسفي دون أن يغوص في ذلك غوص الفنانة فاطمة باشا، كما تتميز لوحاته بعضوية وحسية مقلقة بدت فيها الشخصيات المرسومة وأغلبها لأخ الفنانة عبارة عن مقتطعات بيولوجية دامية جمعها الفنان لتشكل هامات نابضة بالألم.

ويبدو الفنان في لوحاته يعيش لحظة الموت بكل حسيته وحمرته، وإن بدت بعض لوحاته أشبه بأرشفة بصرية لهول الحدث عكف على تكرارها بأشكال مختلفة في لوحاته بغية أن يصدق أن ما حدث قد حدث فعلا، وليس بهلوسات ومقتطعات من كابوس ليلي سينتهي مهما بلغت فظاعته لحظة طلوع الفجر.

نفحة تمرّد جارحة ضد المجتمع وأصول التعزية التقليدية

ولإحسان إلى جانب لوحاته الصغيرة الأحجام ثلاث لوحات كبيرة الحجم، تتصدر الصالة ويغزوها اللون الأزرق وتفتح آفاقها فسحات من فراغ تبرّد من حرارة الفقد حتى تكاد تطمسه خلف رغبة دفينة في عدم الركون إلى الحقيقة الفجة. ويظهر في هذه اللوحات الفنانان، معا هذه المرة، وهما يغتسلان بزرقة المدينة وزرقة السقوط التي أدت إلى موت الأخ، غير أن هذه الأعمال ليست أفضل معروضاته.

يأخذنا عمل الفنانة فاطمة باشا الرئيسي والذي يتصدر الصالة إلى خلفية الفنانة الأكاديمية، فقد نالت شهادة في التصميم الفني "الغرافيك ديزاين" من جامعة طهران إلى جانب شهادة في الفنون الجميلة.

وصهرت الفنانة الخلفيتين الفنيتين ببراعة فائقة من خلال توظيف القدرة على التبليغ المباشر ببساطة الخطوط واستخدام مواد مختلفة غريبة عن عالم الفن التقليدي كحبوب "الستراس"، وهي أحجار تحيل إلى فكرة الزيف، لأنها حبوب "تتشبه" بالألماس ولن تكونه لا في لمعانه ولا في ديمومته، كما استطاعت فاطمة من جهة ثانية أن تسخّر فتنة الإيحاء الذي تتميز به المواد التلوينية الزيتية أولا والأكريليكية لخدمة موضوعها.

في المقابل، و"حرفيا" مقابل اللوحات الزرقاء الثلاث للفنان إحسان أرجمند لا يمكن إلاّ رؤية الزخم الغنائي الذي يخترق العمل الرئيسي للفنانة فاطمة باشا، عمل يكاد يختصر المعرض كله، لا بل كان كافيا ليدق طبوله ويُسمع عزفه الشجيّ في نفس كل من حضر المعرض.

لوحة عتمة تغشاها الحمرة بعكس أعمال الفنان إحسان أرجمند، تتخطى الحاضر المباشر واللوعة المرتبطة ارتباطا شبه حصري بفقدان الأخ لتصبح مثالا عالي النبرة للأعمال التي تتناول الفقد بالمعنى المُطلق.

وبشكل عام، خلافا للأعمال الفنية التي تجيء كنتيجة لفقد عميق، لم يتحول تعبير فاطمة الفني إلى عملية استرجاع للحظات وذكريات، كما هو ليس برثاء قائم، ولا هو تحية وداع إلى الفقيد، إنه احتفاء بالجرح المُكتسب الذي أعلن ذاته كأسلوب حياة جديدة أرسى قواعده إلى الأبد، ومن هنا درامية، لا بل تراجيدية العمل الذي يلعب دور البطولة فيه عصفور معدني قد أهداها إياه يوما ما أخوها.

عصفور، تصوره الفنانة يأكل ويشرب من يدها حينا ويشقّ يدها حينا آخر، إذًا هو حضور الغياب وليس غياب الشخص العزيز، وفي العمل نفحة تمرّد جارحة ضد المجتمع وأصول التعزية التقليدية، وقد عبرت الفنانة عن هؤلاء “الآخرين” المعزين بشريط من حبوب “الستراس” اللامعة وكأنها وشم مزيّف يدقّ مساميره في جرح لن تعزيه كلمات كـ”هو الآن في عالم أفضل”، بل يمعن في غرزها بعيدا في قلب الأخ وفي قلب شقيقته على حد السواء.

17