زمن نادي سينما القاهرة وحلمه الكبير

في هذا المقال استعادة جانب آخر من تجربة نادي القاهرة للسينما في السبعينات من القرن الماضي، وحلم رئيسه أحمد الحضري بإنشاء مقر خاص به، مع توقف أمام بعض الأفلام التي كان النادي عاملا رئيسيا في اكتشافها.
كان رئيس نادي سينما القاهرة أحمد الحضري يحلم بأن يتوفر للنادي مقر خاص به، أي قاعة عرض ثابتة، وهو حلم كبير على أي حال، فمن أين سيتمكن النادي من شراء قطعة أرض في وسط القاهرة، ومن أين يأتي بتكاليف البناء والتجهيز؟ وهل كان يفكّر مثلا في شراء قاعة عرض موجودة فعلا؟
كان الحضري، في الأصل، مهندسا معماريا، وكان أقصى ما يمكن أن يقدّمه للنادي، رسومات وتصميمات البناء إذا اقتضى الأمر. أم عساه كان يتطلع إلى “استئجار” قاعة ثابتة؟ وكان ما أعرفه أن للنادي فعلا قاعة ثابتة هي دار سينما أوبرا العريقة، وبعد أن أرغم على تركها انتقل إلى “قاعة النيل” التابعة للكنيسة الكاثوليكية وكانت الأقرب إلى فهم طبيعة ودور النادي، فقد كان يتبعها المركز الكاثوليكي للسينما الذي أسّسه عام 1948 الأب يوسف مظلوم وكان من هواة السينما العظام. وفي هذا المركز أنشأ فريد المزاوي أرشيفا ضخما للسينما المصرية، وقد تعلم على يديه عدد كبير من الباحثين ونقاد السينما على رأسهم يوسف شريف رزق الله.
مقر شامل
ربما أراد أحمد الحضري مقرا للنادي يتّسع لعدة عروض، وليس عرضا واحدا أسبوعيا، وقاعة للمناقشات، ومكاتب إدارية، ومقر للأرشيف الخاص بالنادي ومكتبة الأفلام التي كان يحصل عليها عن طريق الإهداء، وهو حلم كبير كان يمكن أن ينقل النادي إلى مستوى آخر ليصبح مؤسّسة سينمائية حقيقية تقوم بدور شبيه بدور “معهد الفيلم البريطاني”، وربما يتيح له إقامة مهرجان سينمائي وأنشطة سينمائية متعددة على مدار العام، لكن نادي سينما القاهرة أقيم من الأصل على أساس أنه “جمعية أهلية”، أي يخضع لمراقبة ولوائح وزارة الشؤون الاجتماعية المصرية.
حلم الحضري بتنمية موارد النادي المالية دفعه إلى استثمار حصيلة اشتراكات الأعضاء في “شهادات استثمار” تضمن الحصول على عائد كبير قياسا لأسعار الفائدة الأخرى الموجودة. ولا شك أن الحضري حصل على موافقة أعضاء مجلس إدارة النادي على التصرف على هذا النحو في اشتراكات الأعضاء.
كان نادي سينما القاهرة يهتم بعرض الأفلام الحديثة، خصوصا النماذج الملهمة الجريئة من سينما الستينات والسبعينات
وكان زميلنا وصديقنا الناقد السينمائي سمير فريد، دون أدى شك من أكثر أعضاء النادي وأعضاء مجلس الإدارة في مرحلة ما، نشاطا وحيوية. وقد لفت أنظار القائمين على النادي إلى الكثير من تحف السينما العالمية وأتى بها وشاهدناها عبر سنوات. إلاّ أن سمير كان له موقف آخر، فقد كان يعرض بشدة تجميد اشتراكات النادي في شهادات استثمار طويلة الأجل (تدخر على مدار عشر سنوات)، وكان يعبّر عن موقفه المعارض سواء عن طريق الكتابة أو في اجتماعات الجمعية العمومية السنوية للنادي.
وكان رأيه يتلخص في أنه لا يجوز ادخار اشتراكات الأعضاء التي تُدفع عن سنة معينة، في شهادات لن تصرف قيمتها وعائداتها سوى بعد هذه السنة، أي لا يجوز ترحيلها لسنوات قادمة كونها تدخل ضمن ميزانية عام بعينه، بل يجب أن تنفق على نشاط النادي في نفس السنة، لأن الأعضاء الذين اشتركوا لموسم محدد يريدون خدمة مقابل ما دفعوه من مال. ولا يجوز حجز أموالهم لغرض آخر غير نشاط النادي.
وكان سمير يطالب بإنفاق أموال الاشتراكات على استئجار أفلام معينة أو دعوة مخرجين بأفلامهم من الخارج، أو تحويل النشرة إلى مجلة.. وغير ذلك. وكانت تلك وجهة نظر جيدة وكنت شخصيا مؤيدا لها، فقد كان كل ما يهمني آنذاك، هو مشاهدة أفضل الأفلام والاستماع لأفضل السينمائيين في العالم وكيف يتحدثون عن أفلامهم. ثم كانت المفارقة أنه بعد بدء تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي والتحاق مصر بالسوق الدولية الحرة، شهدت مصر ارتفاعا هائلا في أسعار الأراضي والشقق والعقارات عموما بعد أن انهمر سيل من المستثمرين الأجانب يرغبون في شراء كل شيء. وبالتالي أصبحت أموال اشتراكات أعضاء نادي السينما المجمدة في شهادات استثمار لا قيمة لها، وقد لا تكفي لشراء إحدى الشقق الصغيرة في الضواحي!
أفلام ملهمة
كان النادي يهتم بعرض الأفلام الحديثة، خاصة النماذج الملهمة الجريئة من سينما الستينات والسبعينات، وهما في ظني، أفضل عقدين مرا في تاريخ السينما المعاصرة. وهو موضوع لا علاقة له بالحنين إلى الماضي، بل لأن العالم في الستينات والسبعينات كان يشهد الكثير من حركات الرفض والتمرد على القديم السائد في الثقافة وفي السياسة وفي الأدب والفكر والفنون عموما، وكانت فنون الموسيقى والسينما والغناء والأدب والشعر، تشترك في رفض القيم والمفاهيم القديمة التي كانت سائدة في أوروبا الغربية والشرقية.
وقد تمثلت حركة الاحتجاج في ثورات الشباب في العالم كله التي بدأت في 1968 في فرنسا ثم امتدت إلى بريطانيا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا والولايات المتحدة، بل وإلى مصر أيضا. وشهدت الستينات والسبعينات بروز مواهب فارقة في السينما من بينها بيير باولو بازوليني، برناردو برتولوتشي، جان لوك غوادر، فرنسوا تريفو، فيم فيندرز، راينر فاينر فاسبندر، مرغريتا فون تروتا، رومان بولانسكي، أندريه تاركوفسكي، ميلوش فورمان، دوسان ماكافييف، فيرنر هيرتزوغ، ليندساي أندرسون، بيتر واتكنز، وييري مينزل، وغيرهم.
ومن ضمن الأفلام التي عرضها النادي في عام 1977 مثلا الأفلام التالية للمخرجين المجددين الذين أصبحوا نجوما لامعة وأصبحت أفلامهم ضمن مكتبة كل عشاق السينما الفنية في العالم “الليل الأميركي” لفرنسوا تروفو الفرنسي، و”بحر الشمال بحر الموت” لهارك بوم الألماني، و”أوديب ملكا” لبازوليني الإيطالي، و”حب” لكارولي ماك المجري، و”الختم السابع” لبرغمان السويدي، و”غراميات شقراء” لدوسان ماكافييف التشيكي (أعيد عرضه وكان قد عرض في الموسم الأول للنادي عام 1968)، و”تسعة شهور” و”باندا” و”ماري وجولي” و”التبني” لمارتا ميزاروش من المجر، و”طار فوق عش الوقواق” أول أفلام المخرج التشيكي ميلوش فورمان في هوليوود بعد حصول فيلم “قطارات تحت الحراسة المشددة” لييري مينزل على أوسكار أفضل فيلم أجنبي.
لكن النادي كان يهتم أيضا بعرض الكلاسيكيات السينمائية، ففي العام نفسه عرض فيلم “الإفطار في تيفاتي” لبليك إدواردز، و”الختم السابع” لبرغمان، و”ماسحو الأحذية” لدي سيكا، و”روما مدينة مفتوحة” لروسيلليني. ومن الأفلام المصرية التي أذكر أن النادي عرضها واحتفى بها كثيرا أفلام “الأرض” ليوسف شاهين، و”المومياء” لشادي عبدالسلام، و”الكداب” لصلاح أبوسيف، و”الظلال في الجانب الآخر” لغالب شعث و”زائر الفجر” لممدوح شكري.
ومن أكثر ما يلفت النظر ويبقى في الذاكرة ذلك الحوار الطويل الممتع الذي أجراه يوسف شريف رزق الله مع صلاح أبوسيف حول كل أفلامه. وقد نشر الحوار على 34 صفحة من النشرة في العدد 14 لعام 1977 بمناسبة عرض فيلم “الكداب” في النادي. وقد صدرت النشرة في 48 صفحة متجاوزة في ذلك الحد الأقصى المعتاد وهو 32 صفحة.
وقد بدأ يوسف حواره مع المخرج الشهير بسؤاله عن نشأته واكتشافه للسينما وانتقاله للعمل في شركة غزل المحلة ثم لقائه مع المخرج نيازي مصطفى، ثم انتقاله للعمل في أستوديو مصر في المونتاج أولا ثم كمساعد مخرج، ثم لقائه بالمخرج كمال سليم وتأثره به، وأشياء وجوانب كثيرة كانت خافية تماما عنا حتى ذلك الوقت.
وبعد ذلك يبدأ يوسف شريف من أول أفلام صلاح أبوسيف “دائما في قلبي” فيضع في البداية جميع المعلومات الفنية عن الفيلم (البطاقة الفنية الكاملة) قبل أن يبدأ في توجيه الأسئلة إلى المخرج عن فيلمه من جوانب كافة. وعندما أراجع هذا الحوار اليوم أتعجّب كيف لم يجمع يوسف شريف رزق الله تلك الحوارات التي أجراها مع عدد كبير من المخرجين في مصر والعالم، وينشرها في كتاب.
لكن يوسف كان على ما يبدو قد أصبح أكثر اهتماما بالوصول إلى شريحة أكبر من الجمهور عن طريق البرامج التي كان يعدّها ويقدّمها على شاشة التلفزيون، وهي أكثر ما يتذكّره اليوم جمهور الشباب الذين كانوا أطفالا في السبعينات ولم يلحقوا بعصر “نادي السينما”!