رواية وثائقية عن صعود الفاشية قبل قرن في إيطاليا

"م. ابن القرن".. حكاية تجسّد التاريخ وأشباحه.
الأربعاء 2021/08/11
سردية عن اللقاء العنيف بين الفرد والمجتمع

من الأعمال التي لا تزال تثير الجدل منذ صدورها رواية الإيطالي أنطونيو سكوراتي “م. ابن القرن” التي حازت منذ عامين جائزة “ستريغا”، أهم جائزة أدبية في إيطاليا، لتناولها موضوعا ما فتئ يشغل الساحة الإيطالية في العشريات الأخيرة عن الفاشية والدوتشي موسوليني، فقد اختلف النقاد بشأنها، منهم من عدّها عملا متميّزا يكشف عن فظائع النظام الفاشي وعنصريته، ومنهم من رأى فيها تذكيرا بإيجابيات ذلك النظام بالرغم من نزعته الدموية.

خلافا للتنويه التي جرت عليه عادة الروائيين في مفتتح أعمالهم، حين يشيرون إلى أن أي تشابه بين أبطال الرواية وأشخاص واقعيين هو محض صدفة وأن الرواية من وحي الخيال، يؤكد أنطونيو سكوراتي منذ البداية أن “أحداث هذه الرواية الوثائقية وشخوصها ليست ثمرة خيال المؤلف. بالعكس، فالوقائع والشخصيات والحوارات والخطب الواردة هنا كلها موثقة تاريخيّا أو منقولة عن مصادر جديرة بالثقة”.

والخطاب يقلب الاستقطاب التخييلي المعتاد، إذ يلح على البعد الحكائي للتاريخ ويحوله إلى حبكة، مثلما يلحّ على المادة الحدَثية للعناصر الأدبية، فالكاتب يتبنى التزاما تأويليا بوصفه ساردا، وموضوعية وثائقية تسمح له بأن يخلق تاريخا مضادّا، لا لتاريخ المؤرخين، بل للسردية الفاشية، كما تجلت في عشرينات القرن الماضي.

طبيعة "الرواية الديمقراطية"، فهي بما تحويه من نقائص، تجعل القارئ في وضع الناقد خاصة إن كانت تتناول التاريخ
طبيعة "الرواية الديمقراطية"، فهي بما تحويه من نقائص، تجعل القارئ في وضع الناقد خاصة إن كانت تتناول التاريخ

الرواية الديمقراطية

يتناول سكوراتي في هذا الجزء الأول من ثلاثيته المرحلة الواقعة بين عامي 1919 تاريخ صعود موسوليني و1924 سنة زحفه على روما، ليعالج سردية لا تزال تسكن مخيال إيطاليا المعاصرة، بل إنها ازدادت انتشارا في الأعوام الأخيرة بعد صعود اليمين المتطرف وتبني قادته، على غرار ماتيو سالفيني، خطابا عنصريا قوميا يحيل على موسوليني الذي صار لدى البعض ممن لا يعرفون وقائع التاريخ رمزا لمجد إيطاليا وقوّتها.

 والكاتب يكشف بالوثائق عن السردية الفاشية التي ادّعت أنها جاءت بحكم الإرادة والحتمية والعناية الإلهية، ويبين تشابك الأحداث والقرارات التي أدت إلى زعامة الدوتشي، ولكنه لا يعتمد ثنائية مانوية في تصوير الصراع، بين أخيار وأشرار، بل يقدّم وجهات نظر مختلفة لمن كانوا أطرافا في ذلك الصراع، كموسوليني وثوّار فيومي والشاعر غبرييلي دانّونسيو والنائب جاكومو ماتيوتّي، حتّى يتبين القارئ بنفسه من خلال بوليفونية الشخصيات وكثافة الأوصاف وحتى حميمية الأجساد.

ينقل الكاتب كل الرياح التي عصفت بالمجتمع الإيطالي قبل قرن من الزمان، فقد أظهرت الرواية صورا عما كان يُرفع من شعارات في تلك المرحلة من مُثل عليا وأيديولوجيات ودعوات إلى وحدة الجماهير، بطريقة تقرّب التاريخ لتضعه في مستوى البشر.

هي سردية عن اللقاء العنيف بين الفرد والمجتمع، بين موسوليني الذي جهد كي يجعل العنف شرعة، يعلي من شأنه قولا وفعلا، ويستعمله سياسيا، حتى غدا بوتقة الفاشية ومحركها. وقد سارت الرواية على مستويين: أولا، كسردية مضادة للأسطرة والبنية الأيديولوجية للفاشية؛ ثانيا، كعمل فني داخل الرواية نفسها.

 وبالرغم من الانتقادات التي وجّهت إليه، خاصة في ما يتعلق بالحياة الجنسية لموسوليني، فإن الكاتب برر اختياره بأن ذلك من طبيعة “الرواية الديمقراطية”، فهي بما تحويه من نقائص، تجعل القارئ في وضع الناقد، لاسيما أن بين يديه مراجع عن هذا العمل، والميثاق القرائي يجعل من القارئ باحثا في التاريخ وحتى معترضا على كل ما حوته الرواية من تواريخ وشخصيات وأحداث، فغايته إخراج القارئ من سباته ودفعه إلى الغوص في سجلات التاريخ كي يبحث عن الحقيقة بنفسه بدل التلقي السلبي لما يروّجه الفاشست الجدد عن موسوليني والفاشية.

في رأيه أن الرواية هي موئل تجربة تاريخية يبرز فيها العنف بكل فظاعته مثلما يتجلى عمى المعاصرين أمام التراجيديا. والسردية الروائية تعيد إلى الحياة خطابات وحقائق طواها النسيان أو بسط عليها التزوير رداءه، ولكن ليس على طريقة بعض السينمائيين الإيطاليين، مثل روسيلّيني في “روما، مدينة مفتوحة” أو إيتّوري سكولا في “يوم مخصوص” حيث رسما صورا شتى عن عدد من الأبطال والضحايا، بل بولوج خفايا الانتهازيين والجلادين الذين لا يتورعون عن ارتكاب كل الآثام لتحقيق مآربهم.

الكاتب في مشروعه هذا يعمل على معارضة سردية راهنة عميت عن سردية ماضية، باستحضار مادة توثيقية تفتح البصائر على ما كان، قبل أن تجتاح البلاد مرة أخرى نزعات قومية وعنصرية وأيديولوجية سبق أن أوهتها إلى القاع.

تاريخ مضاد

Thumbnail

إن إيطاليا، إذ تشهد اليوم عودة مجموعات شبه عسكرية نيوفاشية، فلأنها لا تزال تعيش مرحلة شكوك وخيبات، حيث يرى بعضهم، مثل سالفيني، أنها فرصة لاستحضار مخيال استبدادي مناهض للبرلمانية، واستدعاء موسوليني كخطاب أيديولوجي ورمز لقوة القبضة الإيطالية.

لقد كان من آثار العولمة وتشظي المشهد السياسي في إيطاليا أن فُتح باب تمجيد عهد الدوتشي، والحنين إلى هوية قومية عنصرية، ونشر حقائق مزيفة عن “شعبية” الدوتشي والفضائل الاجتماعية والاقتصادية المزعومة للنظام الفاشي، ليس في المواقع الاجتماعية وحدها، بل في المنابر الإعلامية أيضا، مع التعتيم الكلي على قوانينه العنصرية، حتى صارت صوره تتصدر روزنامات وولاّعات تباع في أكشاك السجائر، دون أن تصدم أحدا، على غرار بعض الكتب التي تحسّن سيرته مثل كتاب الصحافي برونو فيسبا “لماذا أحبّت إيطاليا موسوليني؟”.

والخوف كما يعبر عنه سكوراتي ليس من عودة الفاشية بقدر ما هو خوف من عودة ديناميات الكراهية والخضوع للأمر الواقع والانسياق وراء العنف كوسيلة لتحقيق مطامح سياسية. وسكوراتي يمنح قراءه فرصة للنظر في مرآة التاريخ العاكسة وفي مرآة الأحداث السياسية الراهنة.

“م. ابن القرن” هي رواية تقدم صورة جلية عن قوة الأدب، القادر كما يقول بول ريكور على خلق تمفصل بين الزمن التاريخي والزمن البشري، فهي تروي، في شكل “سَيْنيت” saynètes تحمل كل مرة اسم أحد الشخوص مع التاريخ والمكان، صعودَ الفاشية على طريقة سيناريو فيلم أو مسلسل، وتختتم كل فصل بوثائق تشهد على صحة ما رواه الكاتب بأسلوب سردي روائي.

الرواية تتبدى كسردية تاريخية ولكنها قبل كل شيء سردية مضادة وبنية ذاكرة ووعي تاريخي عن طريق الأدب

وهي كما أسلفنا الجزء الأول من ثلاثية أراد من خلالها سكوراتي تقديم صورة لأجيال تجد نفسها عرضة لمراجعات تاريخية مضلّلة، عن الوضع الإيطالي عقب الحرب العالمية الأولى، حيث سادت مواجهات أشبه بالحرب الأهلية بين المناضلين الثوريين والميليشيات الفاشية التي زحفت على روما للاستيلاء على السلطة، وخلّفت آلاف القتلى في صفوف المدنيين والعسكريين.

ولئن قوبلت الرواية بانتقادات عديدة بسبب شكلها الواقعِ بين السرد والتوثيق ونبرتها ذات الالتزام الصريح، فإن الكاتب صرّح بأنه إنما أراد وضع تاريخ مضاد لسردية النظام الفاشي المؤسطرة، مؤكّدا تشبّثه بالبعد الديمقراطي للجنس الروائي.

صحيح أن الرواية تتبدى كسردية تاريخية ولكنها قبل كل شيء سردية مضادة، وبنية ذاكرة ووعي تاريخي عن طريق الأدب. في عصر السرديات الإعلامية والسياسية والإشهارية الحاضرة في كل مكان، يقترح سكوراتي عملا يقوم على النزاهة الفكرية ودراسة الأرشيف، مذكّرا بقوة الرواية من جهة الإثارة والإنارة والوصف والتحليل.

وأمام مخلفات استيهامية لفاشية لا تفصح عن اسمها أحيانا، يبني الكاتب حكاية تجسّد التاريخ وأشباحه. وسكوراتي لا يقدّم إجابات جاهزة، بل يضع مسافة نقدية بينه وبين قارئه وموروثه التاريخي، وروايته هي بمثابة أثر مفتوح، بعبارة أمبرتو إيكو، معروض لقراءات فردية قد تتحول إلى ما يشبه “أغورا” يتواصل فيها الجدل بغية وعي أدقّ وأشمل بمرحلة تاريخية محددة.

Thumbnail
15