رقمنة المعاملات اليومية تبدل الأدوار داخل الأسرة

تشهد الأسرة المصرية التي تنتمي إلى الطبقة المتوسطة تحولات كبيرة بمفعول التقنيات الحديثة وعلاقتها بتوزيع الأدوار بين أفراد الأسرة، فتوجه الإدارات الحكومية إلى اعتماد الرقمنة في العديد من الخدمات -يضاف إليه عدم قدرة الآباء على استخدام وسائل الرقمنة- دفع الأبناء إلى الصف الأول من تحمل هذه المسؤوليات، وأدخل ارتباكا في العلاقات بين الآباء والأبناء اتسم بزيادة في اتساع الفجوة بين الجيلين.
القاهرة- لم يكن محمود إبراهيم (25 عاما) مهتما بالمعاملات الحكومية التي تحتاج أسرته أن تنجزها، فعادة ما يتولى والده (موظف) تلك الإجراءات، فيدفع كافة الفواتير المستحقة لخدمات الكهرباء والمياه ويقدم بنفسه الشكاوى ويتابع حسابه البنكي، لكن مؤخرا بدأت تغييرات تطرأ على علاقة الشاب بتلك المعاملات.
وأصبح إبراهيم مسؤولا عن جزء كبير منها، مع توجه الحكومة نحو تعميم الرقمنة، في ظل محدودية قدرة والده على التعامل مع التكنولوجيا. ورغم ميل الشاب إلى العزلة وتأففه من تلك الإجراءات بات مجبرا على تلبية إلحاح والده في ترتيب أوراق الأسرة.
أنجز إبراهيم تظلم أفراد أسرته إلى وزارة التموين قبل شهرين، عند إخطارهم بتعطيل الحصة التموينية (مواد غذائية تقدمها الحكومة دعما للمواطنين) لأحد أفراد الأسرة، توجه والده مباشرة إلى ناد لخدمات الإنترنت لإتمام مهمة التقديم في شقق وزارة الإسكان على موقعها، دون انتظار نجله، تجنبا للإلحاح وللتغلب على مشاعر التهميش والعجز الإلكتروني.
هذه التحولات أضحت منتشرة لدى العديد من الأسر مع انتشار التكنولوجيا والتوسع الإداري في استخدامها، الأمر الذي خلق فجوة بين الآباء كمسؤولين رئيسيين والأبناء لأنهم قادرون على التعامل مع توجه الحكومة نحو رقمنة الكثير من المعاملات اليومية، ومن ثم زاد شعور التهميش لدى المُسنّين، مقابل زيادة الاعتماد على الشباب.
وبذل الكثير من الآباء محاولات لتقليص الفجوة بينهم وبين الأبناء، بتعلم مبادئ التكنولوجيا وفتح حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي وإجراء عمليات بحث على غوغل مثلا، ويحاول الكثير من الشباب في الأسر المتوسطة تخفيف الأعباء عن كاهلهم من خلال تعليم الوالدين آليات التعامل الأساسية مع التكنولوجيا، فسوف يأتي اليوم لينهي الأب -أو الأم- معاملاته عبر جهاز كمبيوتر أو موبايل صغير.
وتأتي إشكالية الأدوار داخل الأسرة ومشاعر الأهمية والتهميش في مرحلة لاحقة إذا قورنت بجاهزية جميع الأسر في المجتمع بوجه عام لخطوة كتلك. فمن جهة تبلغ نسبة الأمية في مصر 25.8 بالمئة، وفق آخر إحصاء رسمي صدر في عام 2017، فيما لم يرصد أي إحصاء نسبة الأمية التكنولوجية والتي تُقدر بأضعاف الأمية في القراءة والكتابة. وقدر البنك الدولي نسبة الفقر بـ60 بالمئة من المصريين، ووصفهم بـ”فقراء وأكثر احتياجا” وفق بيان صدر في مايو الماضي. وكانت آخر إحصائية رسمية قد قدرت نسبة الفقر في العام 2015 بـ27.8 بالمئة.
وبناء على هذه الأرقام، تزداد المعوقات أمام الكثير من الأسر لإجراء المعاملات الرقمية، خاصة في محافظات الصعيد (الأكثر فقرا)، وبذلك يصبح أحد الآثار المتوقعة للرقمنة تعميق الفجوة بين الحكومة والمواطنين الأكثر احتياجا.
وبلغ العجز الإلكتروني حدا مؤسفا لدى الأفراد الأكثر فقرا ويشمل الأسر ككل، بمراهقيها وشبانها، في ظل عدم القدرة على امتلاك أجهزة إلكترونية حديثة. وتزيد حدة المعوقات مع غياب الرؤية الحكومية الواضحة للتحول الرقمي، ما يعزز التخوفات والشائعات داخل الكثير من الأسر التي باتت مطالبة بإجراء غالبية معاملاتها بصورة رقمية.
يربط البعض بين التوجه نحو الرقمنة وبين الخوف من خلق منظومة إلكترونية معيقة لسيرورة حياة الناس اليومية خصوصا البسطاء والفقراء منهم، بجانب وجود موظفين غير مدربين يجلسون خلف شاشة كمبيوتر لا يجيدون استخدامها، أو منظومة نت ضعيفة تفقد الاتصال كل بضع دقائق.
ويشارك شباب أرباب الأسر نفس التخوفات من الرقمنة، من حيث تأثيرها على رفع نسب البطالة مستقبلا، وعبروا عن تخوفاتهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، فانتشر كوميكس ساخر يطرح تساؤلا لشاب درس التجارة “بعد 4 سنوات دراسة في التجارة ينشئون بنوكا إلكترونية، فماذا سأفعل بشهادتي الجامعية؟”.
وكما لم تخط الحكومة خطوات واضحة لتأهيل موظفيها للتعامل مع التقنيات الحديثة، لم تطرح كذلك رؤى بديلة لطمأنة الأسر المشغولة بمصير شبابها حول فرص العمل المستقبلية في ظل نظام رقمي جارف. وعزز التخبط وغياب الرؤى والتنقلات المفاجئة حالةَ التشكك لدى قطاع كبير من الأسر في الخطوات الحكومية وجديتها.
ويقول سائق التاكسي الخمسيني طارق محمد -وهو رب أسرة مكونة من خمسة أفراد- لـ”العرب” “أفلحوا إن صدقوا.. أعتقد أن هذا النظام متبع في دول العالم ونحن متأخرون”. ونبه محمد إلى أنه في حال تطبيقه يجب مراعاة من هم مثل حالته ممن يفتقرون إلى القدرة على التعامل مع الإنترنت، بتوفير موظفين يقومون بتلك الأعمال في المصالح الحكومية.
وشددت أستاذة علم الاجتماع سامية خضر على ضرورة مواجهة الحكومة لمخاطر اللصوصية والنصب على 25 بالمئة من المجتمع وهي نسبة الفئة الأمية، خلال تعرضها لتلك المعاملات. وقالت لـ”العرب” “التوجه نحو الرقمنة ضرورة لا غنى عنها، فهو توجه عالمي يجب أن نلحق به، مع العمل على توعية الأسر والمجتمع برمته بذلك النظام وتذليل عقباته”.
التحولات انتشرت لدى العديد من الأسر مع التوسع الإداري في استخدام الرقمنة، الأمر الذي خلق فجوة بين الآباء كمسؤولين رئيسيين والأبناء وزاد تهميش المسنين
واستشهدت خضر بالنموذج الياباني، موضحة “في اليابان يضعون موظفا حكوميا مدربا لمساعدة غير القادرين من أرباب الأسر على التعامل مع التكنولوجيا، فتنشر الماكينات في كافة أرجاء البلاد فيما تُخصص أماكن بعينها لغير القادرين على التعامل مع الرقمنة مدعومة بعنصر بشري وسيط”.
ولفتت خضر إلى ضرورة تطبيق الأمر ذاته في مصر تجنبا لعمليات نصب أو سرقة أو تضليل قد يتعرض لها الأميون عند توجههم إلى نواد غير حكومية أو أشخاص عاديين لإتمام تلك المهام نيابة عنهم.
وأشارت إلى أهمية العمل التوعوي لدى جميع الأسر لمواجهة المخاطر المجتمعية المتوقعة، فإضافة إلى الأمية والعجز الإلكتروني يجب أن تعمل الدولة على تغيير القيم المتراخية المرتبطة بالعمل والروتين.
وأكد خبراء أهمية توعية الوالدين بطبيعة المستقبل وتربية أبنائهم على متطلباته، في ظل توغل الرقمنة، والعودة بهم إلى الصناعة والحرف اليدوية والمشاريع الصغيرة دون انتظار الوظيفة الحكومية.