رسائل ألبير كامو وماريا كاساريس في عمل مسرحي ملهم

تيريزا أوفيديو أبدعت في إبراز حيوية النجمة ماريا كاساريس، تلك المرأة الحرة التي كانت تعيش السعادة والشقاء بنفس القوة، حتى لكأنها تحييها من جديد.
الاثنين 2021/08/02
عشيقان يسردان قصة حب عميقة دامت خمسة عشر عاما

“كامو – كاساريس، جغرافيا عاشقة” عرض مسرحي حاز إعجاب مهرجان أفينيون الأخير، استوحته المخرجة إليزابيت شايّو من مراسلات الكاتب الفيلسوف ألبير كامو ونجمة المسرح والسينما ماريا كاساريس ما بين عامي 1944 و1959.

“كامو – كاساريس، جغرافيا عاشقة” مسرحية للمخرجة إليزابيت شايّو تسرد قصة حبّ بين كاتب متألق وممثلة مسرحية وسينمائية بارزة، نسجت أطوارها في بلاد خارجة من الحرب، وخلّدتها رسائل متبادلة بين الحبيبين. بدأت القصة في السادس من يونيو 1944، يوم إنزال قوات الحلفاء في مقاطعة نورماندي لتحرير فرنسا من الاحتلال النازي.

في ذلك اليوم، التقى ألبير كامو، وكان عمره ثلاثين سنة، بالممثلة ماريا كاساريس، وهي في عامها الحادي والعشرين، وعاشا في غمرة الفرحة بالتحرّر من ربقة النازية أيام عشق حميمة. ولما فتر الحماس وعاد الوضع إلى مجراه الطبيعي، اضطرا هما أيضا إلى التعقل، لاسيما أن كامو كان متزوّجا.

ولكن القدر جمعهما من جديد بعد أربع سنوات، عند إحياء ذكرى الإنزال، فلم يقدرا على الصمود أمام العواطف الجياشة، وظلا يلتقيان ويتبادلان الرسائل تباعا، آخرها أودعها كامو مكتب البريد يوم الرابع من يناير 1960، في اليوم الذي سيلقى فيه مصرعه نتيجة حادث مرور.

هما علَمان طبعا عصرهما بطابعهما، كل في مجاله. فماريا كاساريس التي لا تزال مسيرتها السينمائية حاضرة في أذهان الجمهور الواسع، مثلت مع جيرار فيليب وجان فيلار وجه الحداثة المسرحية بعد الحرب. أما كامو فلا يزال علامة مضيئة في الفكر الفلسفي المعاصر، فضلا عن مواقفه السياسية والاجتماعية.

المسرحية تستعيد جانبا من الأفكار والصراعات التي كانت تضج بها الساحة الفرنسية في خمسينات القرن الماضي

عاشا خمس عشرة سنة قصة حب عميقة، برغم سنوات البعد والفراق التي اضطرتهما إليها الحياة، وتقاسما نفس الحماس والعذاب والنظرة إلى واقع متقلب، فيما كان كل منهما يعمق مجراه في مجاله الخاص، كامو في حرفة الكتابة وولعه بالمسرح وحرصه على المواظبة في إنتاج عمل جاد برغم إصابته بمرض السلّ.

وهي في مجال التمثيل حيث قامت بأدوار البطولة، برغم حداثة سنها، في عدة أفلام ناجحة مثل “أطفال الجنة” و”صومعة بارما”، ما فتح لها أبواب الكوميدي فرنسيز، وإن لم يدم بقاؤها فيها طويلا، إذ اختارت العمل في الفرقة القومية الشعبية لجان فيلار، عند بعث مهرجان أفينيون.عاشا خمس عشرة سنة قصة حب عميقة، برغم سنوات البعد والفراق التي اضطرتهما إليها الحياة، وتقاسما نفس الحماس والعذاب والنظرة إلى واقع متقلب، فيما كان كل منهما يعمق مجراه في مجاله الخاص، كامو في حرفة الكتابة وولعه بالمسرح وحرصه على المواظبة في إنتاج عمل جاد برغم إصابته بمرض السلّ.

قام جان ماري غالاي وتيريزا أوفيديو بقراءة تلك الرسائل المتبادلة، التي بلغ عددها ثمان مئة وخمس وستين رسالة، نقلا عن الكتاب المنشور في دار غاليمار، وتخيّرا منها مادة هذا العمل المسرحي الذي نهضا فيه بدوري الفنانين العاشقين، لا لقراءتها على الجمهور بل لمسرحتها، وإعادة نبض الحياة في شرايينها، ولكن دون أن يسعيا إلى تقمّص دوري العاشقين، كتقليد المشية أو الصوت أو الملامح، بل بالتعبير عمّا عاشه الطرفان من تطوّرات وتحوّلات وانكسارات وانتصارات.

فجان ماري غالاي يبرز ثغرات رجل يسكنه الشك الفلسفي، ويحاول أن يفهم العالم، وفي نفس الوقت يظل متردّدا بين هجر زوجته لكي لا يعمّق عذابها، وخيانة حبيبته، أي أنه رجل متمرّد (وهو عنوان أحد مؤلفاته) في فكره ومواقفه، ولكن له سيرة رجل عادي في سائر الأيام، يخطئ ويصيب، ويعِد ويُخلف. أما تيريزا أوفيديو فقد أبدعت في إبراز حيوية النجمة ماريا كاساريس، تلك المرأة الحرة التي كانت تعيش السعادة والشقاء بنفس القوة، حتى لكأنها تحييها من جديد.

تلك المبادلات الغرامية، ثرية من جهة جانبها العاطفي والغنائي، وكاشفة أيضا لبعض الملامح غير المألوفة في شخصية الفيلسوف الفرنسي، فقد بدا من خلال رسائله أنه معذّب، هشّ، نزق، لا يثبت على رأي، وذو سلوك ذكوري مستبدّ أحيانا، أي عكس ما نعرفه عن الرجل الرصين والكاتب العميق. كما كشفت لنا رسائله عن سخريته اللاذعة من كثير من معاصريه، مؤلفين وممثلين ومخرجين وسياسيين. أما هي فقد بدت قويّة، مندفعة، تتوق إلى الحياة بنهم.

ماريا كاساريس التي لا تزال مسيرتها السينمائية حاضرة في أذهان الجمهور الواسع، مثلت مع جيرار فيليب وجان فيلار وجه الحداثة المسرحية بعد الحرب.

في أداء بارع، يُعيد الممثلان إلى الحياة صوتي هذين العاشقين، وحركاتهما، ونظراتهما، وكلمات الحب التي تبادلاها دون الانحدار إلى الابتذال، دون حرص على تقليد أي منهما، لاسيما أنهما لا يشبهان في شيء بطلي الرسائل الغرامية. ورغم ذلك يحسّ المتفرج أن كامو وكاساريس ماثلان أمامه، ينبضان بالحياة.

وقد ساهم إخراج إليزابيت شايّو في إنجاح العمل، إذ جعلت الخشبة مدارا لتلك المرحلة حيث أجهزة اتصال لاسلكي تذكّر بالدور الذي كان يلعبه الراديو في إذاعة الأخبار والأنغام والمنوعات، وقد استغلتها المخرجة لتبث تسجيلات صوتية لكامو وكاساريس بين الحين والآخر، فلا شيء قار على الخشبة بل هي في حركة دائبة، تعكس عالما ينهض من سبات ويتوق إلى معانقة مباهج الحياة بعد أن زال كابوس النازية.

وفضل هذا العمل أنه أعاد إلى الأذهان، أو كشف لمن لا لم يعرف تلك الحقبة، جانبا من الأفكار والصراعات التي كانت تضجّ بها الساحة الفرنسية آنذاك، كالوجودية والغولية (نسبة إلى الجنرال ديغول) وحرب الجزائر، وهذا المهرجان الناشئ، مهرجان أفينيون.

أما عن عبارة “جغرافيا”، فقد أوضحت المخرجة أنها استوحتها من مسرح القرن السابع عشر، للحديث عن الدروب التي يعبرها العاشقان، والتي تتخلّلها سهول ومرتفعات وصخور ووهاد لبلوغ الغاية.

16