رحيل أحمد بن صالح آخر رجالات بورقيبة ومعارضيه

برحيل الوزير والمناضل السابق، أحمد بن صالح، تكون تونس قد طوت صفحة تجربة التعاضد الاشتراكية التي اعتمدها رجل بورقيبة القويّ في وقت سابق قبل أن يصبح ملاحقا من قبل النظام آنذاك.
وبالرغم من أن تجربة التعاضد تلك، التي توخاها الرجل، قد فشلت وفتح فشلها جراحاً يصعب اندمالها حتى اليوم لدى المتضررين منها، إلا أن تاريخ الرجل السياسي وصولاته وجولاته في مراكز قيادة الدولة الوطنية انتصرت له، وهو الذي فقدته تونس أواسط سبتمبر الماضي بعد صراع طويل مع المرض وعن عمر ناهز الـ94 عاماً، شهد فيه فترات حاسمة من النضال الوطني ضد المستعمر الفرنسي وبناء الدولة الحديثة وغيرها من المحطات التي جعلته يُلقّب بـ”رجل السلطة والسجن”.
المنحاز للمهمشين
ولد بن صالح في يناير 1926 بمدينة المكنين من ولاية المنستير شرقي البلاد، ثم تتلمذ في “الكتّاب” والمدرسة الفرنسية العربية بالمدينة، قبل أن يلتحق في 1938 بالعاصمة حيث درس بالمدرسة الصادقية، وترأّس جمعية الشبيبة المدرسية وانخرط كذلك في الشبيبة الدستورية، ليبدأ بذلك مسيرته في الحركة الوطنية منذ شبابه.
وبعد حصوله على الشهادة الثانوية توجّه بن صالح إلى باريس لدراسة الآداب العربية بجامعة السوربون لمدة 3 سنوات بين 1945 و1948 دون أن يكمل مساره التعليمي، وقد ترأّس في باريس الكتابة العامة لشعبة الطلبة الدستوريين.
مواقف بن صالح ما بعد ثورة 2011 تبين أنه كان من الأوائل الذين دعوا إلى مصالحة وطنية شاملة، لكن مع اتخاذ الإجراءات القضائية ضد “كل من أذنب في فترة بن علي” لكي تُلملم جراح الأمس وتنطلق مرحلة التأسيس للجمهورية الثانية.
فجر الاستقلال كان أول تحدٍ للرجل، حيث تم تكليفه بإعداد استراتيجية وطنية لكيفية النهوض الاقتصادي والاجتماعي بالبلاد المُنهكة بعد حصولها على استقلالها. ويمكن اعتبار بن صالح “رجل بورقيبة القوي” حيث جمع خلال عُهدته وزارات الصحة والتعليم والاقتصاد والمالية وهو ما وضعه في الصف الأمامي لصياغة استراتيجيات الدولة في تلك المجالات خاصة الاقتصادية والاجتماعية منها لذلك هناك جدل بشأن اشتراكيته من عدمها، لكن الأهم أن بن صالح كان منحازاً تماما للخيارات الاجتماعية وللمهمشين.
ومنذ ذلك الحين بدأ بن صالح، الذي تولى كذلك الأمانة العامة للاتحاد العام التونسي للشغل أعرق النقابات التونسية في سن التاسعة والعشرين، رحلة تنفيذ عدة خيارات من بينها تجربة التعاضد التي اقترن بها اسمه حتى وفاته.
بعث المشاريع الكبرى
التجربة بدأت بداية الستينات وحتى أواخرها، وقامت بالأساس على ضرورة اعتماد المجتمعات التعاونية أو التعاضدية لوسائل الإنتاج وهي وسائل تُشرف عليها الدولة مباشرة لتقوم في مرحلة ثانية بتوزيع ثمارها على المتعاضدين حسب مساهمة هؤلاء وذلك بعد تأميم الدولة للأراضي الصالحة للزراعة.
ومن الإجراءات التي أقرّتها السلطات التونسية آنذاك الزيادة في الضرائب بهدف تمويل السياسة التعاضدية بنسبة 22.5 في المئة بين 1962 و1970 وهي أموال تكفّلت الطبقات المتوسطة والدنيا بدفع الأوفر منها.
وبالرغم من أن التجربة كان مصيرها الفشل إلا أنها نجحت في بعث مشاريع كبرى بعد تأميم الدولة لكل الأراضي الصالحة للزراعة. ومن بين هذه المشاريع التي بعثتها الدولة التونسية في مدن مختلفة: مصنع الفولاذ بمدينة منزل بورقيبة من ولاية بنزرت، وكذلك مصنع تكرير النفط ببنزرت، ومصنع السكّر في ولاية باجة،، ومعمل عجين الحلفاء والورق بولاية القصرين، كما نجحت السلطات في تحويل تجارة التوريد والتصدير وتجارة الجملة إلى القطاع العام.
ولكن هذه التجربة لم تصمد كثيرا رغم هذه الإنجازات بعد أن ساد التململ الأوساط الاجتماعية وخاصة المتضررين من التجربة تحديدا أصحاب الملكيات الزراعية الكبرى الذين تحدّوا بن صالح وكرسوا ضغوط كبرى عليه وصلت حدّ مطالبة الرئيس بورقيبة بتنحيته خاصة عندما قرّر تعميم نظام التعاضديات على كافة الفلاحين.
الرأس المطلوب
قرر بورقيبة وضع حد لتجربة التعاضد قبل أن يقع فصل بن صالح من “الحزب الاشتراكي الدستوري” وإقالته من الحكومة ليُحال إلى المحاكمة، حيث أصدرت المحكمة قرارا يقضي بسجن “قائد تجربة التعاضد” لعشر سنوات مع الأشغال الشاقة.
بعد هذا الحكم اختار بن صالح المنفى حيث تم تهريبه من سجنه بعد ثلاث سنوات، إلى الجزائر ليستقرّ في بعض العواصم الأوروبية، وهناك أجرى اتصالات بشخصيات معارضة لبورقيبة، من أجل توحيد الرؤى والصفوف في مواجهة النظام. وأسس بن صالح من منفاه “حركة الوحدة الشعبية” وهو أول حزب معارض لبورقيبة. وقد تبنت الحركة فكرا اشتراكيا، وكان لها توجه قومي قبل أن تنشق عنها مجموعة أسست “حزب الوحدة الشعبية” الذي نال التأشيرة القانونية عام 1983.
ظلت الأمور على حالها، يعمل بن صالح مع رفاقه في الحزب من المنفى لكن دون أن يكون هناك اعتراف بحزبه ولا بنتائجه في الانتخابات التي جرت آنذاك، إلى أن حدث انقلاب الـ7 من نوفمبر 1987 الذي أزاح من خلاله الجنرال الطموح زين العابدين بن علي بورقيبة ليضع بذلك حدا لفترة حكمه التي دامت 30 سنة.
البرلمان الشعبي فكرة يعود اقتراحها لبن صالح، الذي مثلت له ثورة 14 يناير النبأ السار، فسارع إلى التنسيق مع رفاق الأمس من أجل تحصين الانتقال الديمقراطي وطيّ صفحة بن علي نهائيا، مقترحاً رفقة أحمد المستيري تأسيس ذلك البرلمان، لكن رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع تجاهل هذا المقترح.
وبعد عام واحد قرر بن صالح العودة إلى تونس إثر التغيير السياسي الذي حدث في شكل انقلاب لم تُطلق فيه رصاصة واحدة، آملا في تغيرات تجعل الحياة السياسية في بلاده تزخر بتعددية تسمح له ولرفاقه ولغيرهم من الإسلاميين والقوميين بالعمل. وهكذا، سرعان ما مُني بخيبة جديدة حيث انتهج بن علي، الذي يقول إنه كان من تلامذة بن صالح في معهد الذكور بولاية سوسة، سياسة تخنق الحريات العامة أكثر، لذلك تبددت الآمال في حدوث تغيير حقيقي يدشن مرحلة جديدة تتسم بالديمقراطية والتعددية الحزبية وغيرها.
ولم تسلم حركة بن صالح من تضييقات الجنرال الصاعد حديثا إلى رئاسة الدولة إلى جانب العديد من الحركات السياسية خاصة الإسلامية منها واليسارية بالرغم من إطلاق بن علي وعودا كثيرة بالانفتاح على الأحزاب وحرية التعبير وغيرها.
ولأن قدره كان أن يجوب مطارات تونس والعالم إما مطاردا أو منفيا باختياره، قرر بن صالح أخيرا مغادرة بلاده في 1990 بعد أن ترسّخت لديه قناعة بأن بن علي لا يؤسس إلا لدكتاتورية جديدة. وعند مغادرته كثّف اتصالاته برفاق الأمس والشخصيات العليا في إدارة شؤون الدولة على غرار الوزير الأسبق ورئيس الحكومة الأسبق محمد مزالي، إلى جانب شخصيات أخرى معارضة. وبقي مع عدد من قيادات المعارضة التونسية التاريخية طيلة تسعينات القرن العشرين في المنفى، قبل أن يعود إلى تونس في خريف العام 2000، ولكن ظلت حركته المعارضة، حركة الوحدة الشعبية، غير متحصلة على التأشيرة القانونية، مقابل دعم السلطة لما سُميّ “حزب الوحدة الشعبية” الذي كان حزبًا معارضا معارضة كاريكاتورية، وداعمًا في الوقت نفسه لبن علي.
بن صالح والثورة التونسية
مثلت ثورة الـ14 من يناير 2011، والتي أطاحت بنظام بن علي، النبأ السار لبن صالح الذي نسّق مع رفاق الأمس من أجل تحصين الانتقال الديمقراطي وطيّ صفحة بن علي نهائيا. واقترح رفقة أحمد المستيري، الذي تقلّد مناصب عليا في الدولة التونسية على غرار وزارة العدل، تأسيس برلمان شعبي يتمتع بشرعية ثورية ويضم ممثلين عن الجهات التي اندلعت فيها الثورة، تنشأ عنه حكومة ثورية، ويحرر دستورا للبلاد يستفتى عليه الشعب، لكن رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع تجاهل هذا المقترح ليدعو إلى انتخابات المجلس الوطني التأسيسي الذي تولّى مهام صياغة دستور الجمهورية الثانية الذي تم التصديق عليه في العام 2014.
وما يلفت الانتباه في مواقف بن صالح ما بعد ثورة 2011 أنه كان من الأوائل الذين دعوا إلى مصالحة وطنية شاملة لكن مع اتخاذ الإجراءات القضائية ضد “كل من أذنب في فترة بن علي” لكي تُلملم جراح الأمس وتنطلق مرحلة التأسيس للجمهورية الثانية.
لكن، وفي الوقت نفسه، كثيراً ما انتقد بن صالح الرئيس الراحل، الباجي قائد السبسي واعتبره متعطشا للحكم متهما إياه بالتحريض عليه خلال تجربة التعاضد في فترة ستينات القرن العشرين. وبالرغم من اختلاف القراءات حول مسيرة الرجل قبل الثورة وإبان فترة الاستقلال وما رافقها من أحداث وبالإضافة إلى تجربة التعاضد، فإن بن صالح يبقى أحد أبرز رجالات بورقيبة قبل أن يتحول إلى عدوّ له.
أخيراً فإن ما يُحسب لبن صالح أنه كانت لديه رؤية ثاقبة حيال الوضع الاجتماعي المتردي في مرحلة ما بعد الاستقلال وطرح برامج، على غرار التعاضديات، كانت قادرة على الاستجابة لتطلعات التونسيين رغم اختلاف الباحثين في حقل العلوم السياسية والاقتصادية في تقييم التجربة.