رجاء الجداوي فنانة مخضرمة تجلب لها كورونا تنمّر المصريين

الفنانة رجاء الجداوي تمسكت طوال رحلتها الفنية بدور الفتاة أو السيدة الأرستقراطية  وحافظت على بريقها في الوسط الفني بوصفة سهلة مفادها "التمثيل من أجل التمثيل".
الثلاثاء 2020/06/16
الفنانة الأرستقراطية

فنانة مصرية ارستقراطية لديها الكثير من الشغف بالتمثيل، رغم تخطي عمرها الثمانين عاما. تسبب إصرارها على استكمال دورها في مسلسلها الأخير “لعبة النسيان” في إصابتها بكورونا، ما أحدث جدلا مجتمعيا في مصر حول قيمة الفن، ومقارنة دور الفنان بالواقفين في الصفوف الأمامية، وحديث عن طبقية تلقي العلاج.

أصيب عشرات المشاهير بفايروس كورونا حول العالم، لكن رجاء الجداوي كانت الوحيدة التي فجرت مع التقاطها العدوى موجة صخب، امتد صداه إلى الحديث عن الطبقية، والكوسة ”لفظ محلي للكناية عن المجاملة“، بعدما لقيت اهتماما رسميا كبيرا لم يحظ به أطباء مصابون بالفايروس عجزوا عن إيجاد مكان في غرف الرعاية المشددة.

تعرضت الجداوي للعدوى خلال آخر أيام تصوير المسلسل الذي تلعب بطولته الفنانة دينا الشربيني، وتم عرضه في الموسم الرمضاني المنقضي، ووجدت اهتماما من وزيرة الصحة هالة زايد شخصيا بسيارة مجهزة نقلتها إلى مسقط رأسها في محافظة الإسماعيلية، بشرق القاهرة، بناء على طلبها، وتم وضعها في الحجر الصحي لتلقي العلاج.

غضب المجتمع

الاعتزال خيار ترفضه الجداوي، فالجمهور أصبح جزءا من تكوينها، بعد أن عاشت معه طفولتها ومراهقتها وشبابها حتى وصلت إلى {جدة}، فالفن هو الهناء والشقاء لها في الوقت ذاته
الاعتزال خيار ترفضه الجداوي، فالجمهور أصبح جزءا من تكوينها، بعد أن عاشت معه طفولتها ومراهقتها وشبابها حتى وصلت إلى {جدة}، فالفن هو الهناء والشقاء لها في الوقت ذاته

لم يشفع التاريخ الفني الكبير للممثلة المخضرمة، والذي يناهز 370 عملا ما بين درامي ومسرحي وسينمائي وإذاعي وسهرات تلفزيونية، عند الجماهير الغاضبة من وفاة الطبيب وليد عبدالحليم جراء الإصابة بمحل عمله بمستشفى المنيرة بالقاهرة، وحركت غضبا واستقالات في أوساط الأطباء بعد تأكيد زملائه أنه لم يلق رعاية منذ اكتشاف إصابته قبل أسبوعين، وفشل في الحصول على سرير في العناية المشددة ليظل معزولا في منزله حتى ساعات من وفاته.

وقد شهد المجتمع المصري بعدها حالة جدل لا تخلو من تنمر ومقارنات مجحفة، بين فريق من الفنانين اعتبر أن مهنتهم هي الأخطر لأنها تحول دون أخذهم الاحتياطيات الكاملة لتفادي الإصابة بالوباء، وآخرون اعتبروا “الفن” نشاطا ترفيهيا كان يجب التغاضي عنه في أزمة كورونا، ولا يمكن مقارنته بالأطباء والممرضين الذين يتصدرون الخطوط الأولى لمواجهة الوباء ويجب أن ينالوا جميع وسائل العناية الممكنة.

من داخل مستشفى العزل، بدت الجداوي منزعجة من تسريبات الصور الخاصة بها، التي تظهرها بملابس المرض دون الأناقة المعتادة التي لازمتها طوال رحلتها الفنية التي استمرت 62 عاما، حيث كانت شديدة الوهن بلون أصفر شاحب، وظهر تلاعب الزمن بمعالم وجهها وتجاعيد طالما أخفتها بالمساحيق، لكنها ظلت قابضة بيديها على مصحف كبير ومسبحة صغيرة وأذكار وأدعية لم تغادر لسانها.

رفضت الفنانة الاتهام بتلقيها معاملة خاصة أو خضوعها لقدر من المحاباة وهي تهمة تثير لديها حساسية خاصة منذ ظهورها في الوسط الفني، فالكثيرون يربطون تجربتها بدفعة من خالتها الفنانة الاستعراضية الشهيرة تحية كاريوكا، رغم أن الأخيرة مانعت عملها بالفن، وقاطعتها لمدة 6 سنوات بعد مخالفتها تعليماتها بالدخول إلى حلبة التمثيل.

امتدت الحساسية الناشئة بسبب إصابتها إلى درجة رفض ترشيح أحد المخرجين للجداوي للعب دور البطولة في عمل كامل عن تحية كاريوكا خوفا من أن تتلقى اتهامات باستغلال اسم خالتها وفرض اسمها على المخرجين، وظل العمل معطلا لعدة سنوات بسبب ممانعتها للأسماء المطروحة لتجسيد الدور.

حافظت طوال رحلتها الفنية على دور الفتاة أو السيدة الأرستقراطية، ما يتسق مع نشأتها في بيت والدها أحد كبار الأعيان بالإسماعيلية، وحينما انفصل عن والدتها التي كانت من أصحاب الأطيان المتضررات من قرارات التأميم في الخمسينات، انتقلت مع شقيقها الأكبر إلى القاهرة لتعيش في كنف خالتها الفنانة كاريوكا التي اعتبرتها مشروع عمرها، وأرادت أن تحقق فيها أحلاما عجزت عن تحقيقها كالتعليم في فرنسا وداخل أرقى الجامعات “السوربون”.

روح تحية كاريوكا

الجداوي التي لا تعترف كثيرا بلعبة الزمن، ترى أن بقاءها في المنزل يصيبها بالاكتئاب، ولذلك تتلقف أي دور جيد. "في الصورة الجداوي مع جاكي شان"
الجداوي التي لا تعترف كثيرا بلعبة الزمن، ترى أن بقاءها في المنزل يصيبها بالاكتئاب، ولذلك تتلقف أي دور جيد. "في الصورة الجداوي مع جاكي شان"

ألحقتها الفنانة الاستعراضية بأشهر مدرسة فرنسية داخلية، لتزامل أبناء الطبقات الثرية وأحفاد الأمراء لمدة 11 عاما متواصلة في تعلم ثلاثة لغات أجنبية والتعرف في سن مبكرة على تراث الأدباء العالميين بلغاتهم الأصلية، قبل أن يلعب القدر دورا في دخولها إلى ساحة الفن رغم الحصار الذي فرضته خالتها بإبعادها عن المخرجين وكتاب السيناريو والممثلين.

حصلت الجداوي على أول أدوارها السينمائية خلال حضورها حفلا في حديقة الأندلس بالقاهرة، لاختيار فتاة لمنحها لقب “سمراء القاهرة”، ولم تجد لجنة التحكيم بين المتقدمات من تصلح للقب في عصر كانت بنات الطبقات الثرية فيه تتشبه بالغرب بصبغ الشعر باللون الذهبي

الأشقر، فبدأوا البحث بين الحاضرات ووجدوا ضالتهم في رجاء، لتعتلي المسرح وسط سيل من التصفيق، وتحصد اللقب وعمرها لا يتجاوز 15 عاما.

جذبت الفتاة أنظار المخرج هنري بركات، الذي كان بين المدعوين في الاحتفال، فدفع بها إلى دور ابنة المأمور في فيلم “دعاء الكروان” أمام فاتن حمامة وأحمد مظهر، وفي الحفل ذاته فوجئت والدتها بمصمم أزياء يوناني شهير، يعلن رغبته في تبنيها للعمل كعارضة أزياء لتشكيلة فساتين يصنعها في مصر ويعرضها محليا وخارجيا لتتغير حياتها كلية في يوم واحد.

حدوتة مصرية

حياة الجداوي تدور في عالمين متصارعين، بين المركز الأول في مجال الأزياء، والثاني في حقل التمثيل، ما أصابها بأزمة نفسية أبعدتها عن الساحة
حياة الجداوي تدور في عالمين متصارعين، بين المركز الأول في مجال الأزياء، والثاني في حقل التمثيل، ما أصابها بأزمة نفسية أبعدتها عن الساحة

فجأة وجدت نفسها أمام عالمين واسعين، التمثيل ببريقه ووجاهته وتقديره، والأزياء بعالمها الخصب المليء بالألوان والتصميمات والسفر، لتحصد قبل أن تتم عامها العشرين عدة ألقاب من بينها ملكة جمال القطر المصري، وملكة القطن التي كانت تجري في باريس تقديرا لأهمية المحصول المصري الأجود عالميا في حينه، وتكتسب خبرات لا تتاح لمن في سنها.

ظلت الجداوي تعيش حياتين متصارعتين بين المركز الأول دائما في مجال الأزياء والجمال في المهرجانات العالمية التي تمثل فيها بلدها، والمركز الثاني في التمثيل فلم يدفع بها أي من المخرجين طوال رحلتها الطويلة إلى دور البطولة الأولى، ما أصابها بأزمة نفسية أبعدتها سنوات عن الساحة، قبل أن تقرر العودة من جديد لعجزها عن العيش بعيدا عن الأضواء.

تكره وصفها بابنة الطبقة الأرستقراطية رغم أنها سمة مكتسبة تلائم طريقة حديثها وملابسها وعنايتها بذاتها، فظلت تشعر بالضيق حينما تعرف أن سر اختيارها في كثير من الأعمال الفنية ليس قدراتها التمثيلية، حتى أنها  عزت الفضل في حياتها الفنية إلى “دولاب الملابس المتنوع”، وليس إلى  صاحبته.

رغم غزارة إنتاج الفنانة المصرية على المستوى الكمي ومشاركتها في أعمال فنية تحتل مرتبة متقدمة ضمن قائمة الأفضل مثل أفلام “حدوتة مصرية” و”البيه البواب”، والمسلسلات “للعدالة وجوه كثيرة” و”لا أحد ينام في الإسكندرية” و”أولاد آدم”، لكنها جميعها دارت في مساحة متشابهة من الأدوار ولم تتحرر من عباءة السيدة الثرية أو ابنة الأغنياء أو حتى المرأة المثقفة متوسطة الحال لكنها تعاني من مشاكل عاطفية وليست مالية.

لم تستطع الهروب من تلك الدائرة إلا في ثلاثة أعمال قدمت فيها دور السيدة المكافحة التي تكابد مشاق الحياة، آخرها “لعبة النسيان” عن سيدة محجبة مسنة تعمل في قصر رجل أعمال، وقبلها مسلسل “مبروك جالك قلق” مع هاني رمزي عن امرأة من منطقة شعبية تعيش مع ابنتها الوحيدة، وفيلم “الثلاثة يشتغلونها” مع ياسمين عبدالعزيز عن مديرة مدرسة في حي فقير.

إصابة الجداوي بعدوى كورونا تعود لإصرارها على استكمال دورها في مسلسلها الأخير "لعبة النسيان"، الأمر الذي أحدث جدلا مجتمعيا في مصر حول قيمة الفن، ومقارنة دور الفنان بالواقفين في الصفوف الأمامية، والتمييز الطبقي في تلقي العلاج

تبدي الجداوي، حاليا، استياءها من تحولها إلى مادة خصبة للقيل والقال، رغم إيمانها بأن الفنان شخصية عامة ولا فارق بين سلوكه الخاص والعام، ربما لانتهاجها حياة شخصية مغايرة جعلتها الأقل تعرضا للشائعات، فلم تكرر الزيجات المتعددة لبنات جيلها أو خالتها التي تزوجت 13 مرة، وحافظت على ارتباطها بحسن مختار حارس مرمى النادي الإسماعيلي، الذي ظلت معه حتى وفاته قبل عامين.

حافظت على بريقها في الوسط الفني بوصفة سهلة، مفادها “التمثيل من أجل التمثيل”، ونأت بنفسها عن التورط في أزمات ترتيب الأسماء على مقدمة أعمالها أو مساحة الدور، فالجمهور في وجهة نظرها لا يهتم بتلك الأمور، وما يعنيه في المقام الأول هو مدى جودة العمل ككل، وقدرة المشاركين فيه على الإقناع في الأدوار التي يؤدوها. وعملت مع سلسلة طويلة من المخرجين وأسماء كبيرة مثل هنري بركات ويوسف شاهين وأحمد يحيى ومحمد فاضل ومحمد عبدالعزيز وفطين عبدالوهاب، وتعاونت مع كتاب السيناريو بداية من جيل الخمسينات مكحمد عثمان وحلمي حليم، وامتد بها التعاون مع مواهب جديدة في عمر حفيدتها حاليا لكنها لا تمتعض من توجيهاتهم وتأدية المطلوب منها.

ورأت أن المقارنة بين السينما القديمة والحديثة ظالمة، فكل زمن يختلف عن الآخر في ظروفه وطريقة معيشته وأحواله الاجتماعية، لكنها كانت مشدودة لتجارب السينما القديمة، فحينها كانت القصص تنبع من أدب نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويحيى حقي وتمكن كتاب السيناريو من معالجتها لتصلح لشاشة العرض مع دمج بعض قضايا المجتمع الجادة داخلها ما يجعلها شبيهة بميزان إحدى كفتيه الفن والآخر التعبير عن هموم ومشكلات المواطن.

أبدت قناعتها بأن تراجع الحبكة الدرامية في معظم الأعمال الفنية حاليا سببه ورش الكتابة، فالعقليات والرؤى المختلفة للمشاركين فيها تتسبب في فقدان الخيط الدرامي، على عكس الإنتاح القديم المعتمد على كاتب واحد يمسك بيديه خيوط الحكاية من البداية حتى النهاية، فيمنع تسرب الشتات على الأحداث ويضع صورة كاملة عن كل شخصية مشاركة.

ظلت الفنانة المخضرمة حتى وقت قريب تؤكد أنها تعلمت الفن من أصدقائها، فعادل إمام هو الذي علمها الكوميديا والإضحاك، ومحمود مرسي جعلها تتقن العربية بعدما كانت تتحدث بالفرنسية والإنجليزية، وفاتن حمامة غرست فيها كيفية الأداء المنضبط، وسميحة أيوب لقنتها كيفية أداء أدوار الأم بتشكيلاتها المختلفة ما بين الأم القاسية والحنونة.

نهم شديد

الفنانة الأنيقة تؤكد أنها تعلمت الفن من أصدقائها، فعادل إمام علمها الكوميديا، ومحمود مرسي درّسها العربية بعدما كانت تتحدث بالفرنسية والإنجليزية
الفنانة الأنيقة تؤكد أنها تعلمت الفن من أصدقائها، فعادل إمام علمها الكوميديا، ومحمود مرسي درّسها العربية بعدما كانت تتحدث بالفرنسية والإنجليزية

عانت الجداوي من نهم منقطع النظير نحو التمثيل، فعدد أعمالها تزايد كلما تقدمت في العمر، وكانت هناك علاقة طردية فريدة، حتى أنها شاركت في 77 عملا خلال عقد واحد وعمرها 72 عاما، ونحو 35 عملا في خمس سنوات وعمرها يقترب من الـ 78، ما جعل البعض يصفونها بـ”المنشار الذي يأكل في خشب الفن.. ويرفض التوقف”.

لم تعترف الجداوي كثيرا بلعبة الزمن، ورأت أن بقاءها في المنزل يشعرها بالتقادم في العمر ويصيبها بالاكتئاب، ولذلك تلقفت أي دور جيد في ظل مبدأ يسود السينما المصرية يعتبر كبار السن مكملين هامشيين للأحداث وليس المحرك الأساسي لها.

لم تتخوف من تجربة التقديم التلفزيوني مع الإعلامي عمرو أديب وعمرها يتعدى السبعين وخاضت معه ثلاث تجارب بفقرات أسبوعية كان آخرها برنامج “الحكاية” بفقرة بعنوان “اسألوا رجاء” تقوم على النقاش والحوار في موضوعات بسيطة بشكل مرح ولطيف، كما خاضت تجربة إذاعية عبر برنامج “وانتوا بصحة وسعادة” وعمرها يقترب من الثمانين، وحاولت خلالها إظهار شخصيتها الحقيقية، وأفكارها ورؤيتها في الحياة بعيدا عن ا لشاشة.

رفضت الجداوي الاعتزال، فالجمهور أصبح جزءا من تكوينها فعاشت معه طفولتها ومراهقتها وشبابها حتى وصلت إلى “جدة”، والفن هو الهناء والشقاء لها في الوقت ذاته، فكان السبب وراء تعرض والدتها للطلاق من والدها الذي اعترض على تحول كاريوكا إلى راقصة، وبسببه أيضا فقدت علاقاتها بالأخيرة التي اعتبرتها أمها الحقيقية، وبسببه أيضا أصيبت بوباء فتاك أقعدها في المستشفى، لكنه في النهاية منحها السعادة والصفاء النفسي والشهرة.

لم تظهر رجاء الجداوي تخوفا من الموت، فالقدر منحها عمرا مديدا لرؤية حفيدتها أغلى ما تملك، وهي شابة ناضجة، تؤكد أنها اهتمت بالحياة الأخرى كثيرا كأثاث منزلها وتداعبها التخيلات عن جمال ما بعد الموت، تعتبر أن الدنيا بوابة للمرور إلى عالم أفضل، وأكثر ما تخوفت منه هو انتهاء حياتها بشيء يشين تاريخها أو يسيء لابنتها أو حفيدتها.

13