رثاء للإنسان.. أم نداء للإنسان

دستور هذا النظام العالمي ينص على أن تعمل أدواته لتعزيز وجوده بغض النظر عن القيم والأخلاقيات. هناك تحالف أشبه بتحالف الشيطان بين نخبة تلهث وراء مصلحتها واستثماراتها وبنوكها.
الخميس 2025/01/23
يعودون بخطى مترنحة ليبدأوا من الصفر

العالم كله أضحى ركامًا، فلماذا لا نصبح نحن أيضًا ركامًا؟ نصبح ركامًا يتناثر بشكل عبثي، بلا جدوى. كل شيء قابل للتداعي والانهيار. لكن، كم مرة يسقط الإنسان؟ كثيرًا؟ يبدو ذلك.

لم تعجبني اللعبة. أتعجبك؟ هل تستمتع بالنظر إلى حياة الأفراد التي باتت تشبه النفق اللولبي؟ قدر الأوطان الذي أصبح كقطار الموت، في غزة والضفة ولبنان، في سوريا والسودان وليبيا، في أفريقيا الغنية بمواردها الفقيرة شعوبها.

بين الركام والفرص المهدرة.. تمعن النظر في مشاهد عودة النازحين إلى مناطقهم شمال قطاع غزة، يسيرون بخطوات مترنحة، مثقلة ومتعبة بين ركام خيباتهم. يعودون ليبدأوا من الصفر. عندما نفكر بالخيارات والفرص البديلة، ألم يكن العام الماضي فرصة لبناء مجتمعات تحترم كيان الأفراد؟

في الاقتصاد هناك مصطلح “تكلفة الفرصة البديلة”، أي حساب خسارة الأرباح أو الفوائد من الفرص البديلة عند اختيار خيار واحد. فهل كان الخيار الأفضل بالفعل هو خلق جحيم أبدي للأفراد في غزة واليمن وأفغانستان وباقي المناطق؟

◄ المناطق التي تقف على كف عفريت كثيرة. سقطت الأقنعة وظهر العالم على حقيقته، وبشكل متسارع في الأعوام الأخيرة، خاصة في العام الأخير في ظل كل هذه المآسي المتعاظمة

كم عدد الخيارات التي تم إهدارها لصالح الدمار؟ ألم يكن من الأفضل بناء بنية تحتية أقوى في البلاد بدلًا من هدم الموجود على رؤوس الملايين؟ ألم يكن من الأفضل الاستثمار في تعليم أفضل بدلًا من تحطيم ونسف كامل القطاع التعليمي ببنيته المادية والقيمية، الاستثمار في قطاع صحي؟

قطاع غزة، بجغرافيته المميزة، كان يحمل فرصًا هائلة للاستثمارات. يمكنه أن يكون ميناء عالميًا هامًا وبقعة جاذبة للأفراد. لكن كيف تم الاستثمار في فرصة بديلة مناقضة تمامًا للجنان والنمو والتطور؟ لماذا كل هذا الخراب وتعزيز مصفوفة الشيطان؟ قامت القيامة ثم ماذا؟ ثم أضحى الشرق الأوسط متشظيًا.

كُثر من يتحملون مسؤولية ما حدث، وجهات عديدة كثيرة تتحمل مسؤولية كل الخراب الذي حل بالشرق الأوسط. فمن غزة، ينطلق المشهد للتمعن في الخريطة والمناطق المحيطة. ستجد مصفوفة جحيمية متقنة تم سجن الأفراد فيها. هناك فنانون بارعون في العالم في صناعة الهاوية: أرقام هائلة من الفقر والبطالة، اقتصاد متهالك، نظم تعليمية مترنحة، وقطاع صحي يكافح ليبقى.

ثم ماذا؟ ثم عجلة هذا العالم تدهس الإنسان، قيمًا وفكرًا وثقافة. تضلله إيمانيًا، وتربطه من عنق احتياجاته ليصبح أسيرًا. أوليس هذا ما توقعه جورج أورويل سابقًا بين سطور روايته 1984؟ حين قال “إذا كنت تريد أن تستشرف صورة المستقبل، تخيل حذاء يدوس ويدمغ وجه إنسان إلى أبد الآبدين.”

في عالم يفكر باستبدال السيارات التقليدية بالكهربائية لإنقاذ البيئة، هناك شعوب عادت تسير على أقدامها، وتستخدم الحيوانات للتنقل. في عالم يبني ناطحات السحاب المقاومة للزلازل، هناك مناطق استبدلت منازلها بخيام. في عالم حيث تتوفر كل التقنيات القادرة على تحسين جودة الحياة والطعام والمياه وتحديث الزراعة وتحويل الأراضي القاحلة إلى أراضٍ منتجة..

الكثير من المناطق تعاني من تلوث المياه، انتشار الأمراض، تمدد التصحر والأراضي القاحلة العدمية، والغذاء بالكاد يتوفر، في 2025 حيث التطور التقني والتكنولوجي ومناطق كثيرة في العالم تعاني من أزمات غذاء. في عالم تتوفر به شبكة عنكبوتية ووسائل إعلام.. حيث يتوفر محتوى معرفي بشكل هائل، يزداد الجهل بدلًا من الوعي والإدراك.

◄ قطاع غزة، بجغرافيته المميزة، كان يحمل فرصًا هائلة للاستثمارات. يمكنه أن يكون ميناء عالميًا هامًا وبقعة جاذبة للأفراد. لكن كيف تم الاستثمار في فرصة بديلة مناقضة تمامًا للجنان والنمو والتطور؟

هل أبدو أنني أعيش صراعًا سوداويًا مع قيم هذا العالم؟ يبدو ذلك. أفكر طوال الوقت، أهذه المفاهيم من الصدق للوضوح للخير للعدالة للنزاهة للحكمة للوعي للتسامح للسلام، أهي مجرد قصاصات من سيناريو لفيلم فاشل لم يعد يحقق أي أرباح؟ هل هناك إمكانية لتحويل هذا السيناريو إلى واقع في مرحلة ما؟ هل من الممكن أن ننجح يومًا في السير على الصراط المستقيم بخطوات ثابتة لا مترنحة؟ أم أن الإنسان محتوم عليه تكرار التاريخ، وغالبًا كل الإشارات القابعة في ثنايا هذه الهدن الصامتة الهشة غير المُلتزم بها والاتفاقات المريبة الموقعة في لبنان وغزة، تقول إن التاريخ حتمًا سيتكرر.

التعزيزات العسكرية في الضفة الغربية تتعاظم، والملفات غير المحسومة في الشرق الأوسط كثيرة، وكلها تنتظر شرارة، من السودان إلى ليبيا وتونس، العراق وإيران وسوريا ولبنان.. والمناطق التي تقف على كف عفريت كثيرة. سقطت الأقنعة وظهر العالم على حقيقته، وبشكل متسارع في الأعوام الأخيرة، خاصة في العام الأخير في ظل كل هذه المآسي المتعاظمة.

دستور هذا النظام العالمي ينص على أن تعمل أدواته لتعزيز وجوده بغض النظر عن القيم والأخلاقيات. هناك تحالف أشبه بتحالف الشيطان، بين النخبة التي تلهث وراء مصلحتها واستثماراتها وبنوكها. المصلحة الخاصة تغلب على المصلحة العامة، والفرد منا أسير مصفوفتهم. يبدو أن المصالح السياسية والاقتصادية أهم من كرامة الإنسان ووجوده. لطالما كانت القيم في هذا النظام العالمي تتبع المصالح.

فقل لي، ما الفرق بين عام 1904 واليوم؟ حينها عُرض بعض السكان الأصليين لشعوب مختلفة كوحوش في حدائق “البشر” على نمط حدائق الحيوان، واليوم تُسحق شعوب بأكملها تحت عجلة المصلحة السياسية والاقتصادية. يبدو أن الإنسان لم يتعلم احترام ذاته بعد، ويفشل في إيجاد مصفوفة تحترم حقوق وحريات وكيان الأفراد.

هذا رثاء للإنسان، اعتبره إن أردت نداء: فهل يمكننا كسر لعنة هذا التاريخ المكرر، ورفض المصالح التي تدوس القيم؟ هل يمكن للعالم أن يختار البناء يومًا بدلًا من الهدم؟ يبقى الجواب بيد الإنسان.

9