رؤية جديدة للقضية الفلسطينية

الحديث عن التوقف يبدو صادما لكنه ليس هزيمة بل فرصة لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل وتعزيز التعليم وتطوير الاقتصاد وتهيئة الفلسطينيين ليكونوا أكثر استعدادا لمواجهة المستقبل.
السبت 2025/01/18
الحلول ليست سهلة، لكنها ممكنة

تعيش المنطقة تحديات غير مسبوقة. تتداخل فيها المصالح الإقليمية والدولية، وتتصاعد خلالها الخطابات الشعبوية. وفي هذه المرحلة المتعاظمة في سوادها، تحتاج البلاد إلى عقول بتفكير إستراتيجي. الحلول السريعة والمباشرة، المتمثلة في شعارات “النصر الآن”، و”انتصرنا”، لم تعد عملية.

في عام 2025، وفي عالم يتم البحث فيه عن كيفية تحقيق العدالة، وبناء مجتمعات تحترم كيان الإنسان، من الضروري البدء بالتفكير العقلاني والنقدي للواقع الفلسطيني بشكل خاص، وواقع الشرق الأوسط بشكل عام، بدلا من الرقص على الركام.

لا بد من التحرك في اتجاه مغاير لبناء مستقبل أفضل، وكتابة القصة بطريقة مختلفة، وإيجاد احتمالات جديدة، وإلّا ما حدث خلال العام الماضي سيحدث مجددا، بعد عام أو بعد 20 عاما.

◄ ما يحدث اليوم في فلسطين والمنطقة لا يمكن فهمه بمعزل عن المصالح الإقليمية والدولية. ومع ذلك، فإن الشعب الفلسطيني يملك قوة هائلة إذا استطاع تنظيم جهوده وتوجيهها بحكمة.

شعوب المنطقة، والشعب الفلسطيني بشكل أساسي، خرج منهكا بعد تعرضه لخسائر كبيرة، في الأرض والمال وتشتت البوصلة وزيادة التضييق عليه في حركته. وللأسف، التضييق مستمر، ومن الواضح أنه سيستمر ليصبح جزءا من تفاصيل مشهده اليومي.

عجلة الاستنزاف لن تتوقف، لا بالتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار، ولا مع تغيير موازين القوى في الشرق الأوسط. ويبدو أن الأمل تبدد لبناء دولة فلسطينية في المستقبل القريب. وجاءت النتائج عكس ما كان يرجوه الفلسطيني، وبدلا من إحياء قضيته، تمت تصفيتها.

فاوض الفلسطيني في غزة للوصول إلى اتفاق وقف إطلاق نار مقابل أساسيات أقل من أساسيات امتلكها سابقا، فأين يكمن المنطق؟ أن يُهان الإنسان، أمر مؤلم. وأن يُسلب منه حتى الفتات الذي كان يملكه، أمر مرعب.

الضفة الغربية تقف على كف عفريت، بين فكي تصريحات سموتريتش، وبن غفير، وإعطاء نتنياهو الضوء الأخضر لعمليات موسعة. لذا من المتوقع أن تتآكل أراضٍ أكثر، وتلتهم الحقوق بشكل أوسع.

وبينما يبدو مشهد البلاد في قعر الجحيم، على الفلسطيني أن يفكر: ما الحل؟ ويسأل نفسه: ماذا حقق خلال عام؟ وما الذي يصبو إليه؟ وهل لديه القدرة على الاستمرار بهذه الحلقة المفرغة؟ وإن كان يؤمن أن هناك ثمنا باهظا لحريته، هل الأثمان التي دفعها جعلته يخطو خطوة واحدة إلى الأمام؟

ربما عليه تغيير أسلوب تفكيره وأفعاله.. من أجل من؟ من أجل الأجيال القادمة. أن يكون حقيقيا مع نفسه، مع قراراته، وأهدافه. لأن الواقع يقول إنه عاد عام 2025 إلى نقطة الصفر. لذا عليه العودة لبناء مشروعه من جديد، ببنيته المادية والبشرية والفكرية والثقافية.

وعليه أن يفكر، كيف يحمي ما تبقى له قبل جولة جديدة من النزيف الإنساني. ربما هناك طريقة أخرى لوقف هذه المعاناة اللامتناهية، التي يبدو أن الحياة لا تكافئ أحدا عليها.

بعض الشعوب يجب أن تبدأ من الصفر، وبناء دولها وقيمها بما يشبهها. الطريق، في ظل عالم متطور تكنولوجيا ورقميا ومتطور بأدواته، سيكون مليئا بالتحديات. على الشعوب العودة إلى جذورها، والاستفادة من التجربة والفلسفة الاشتراكية في بناء مجتمعاتها. والعودة ربما إلى الأرض، أو ما تبقى منها، ومحاولة التعاضد بين أفرادها، عاطفيا ومعنويا. ما يحدث في مكان يجب أن يكون له صدى واقعي في مكان آخر، وليس مجرد شعارات متطايرة على وسائل تواصل اجتماعي لا سيطرة لهم على خوارزمياتها.

◄ من المهم أن تكون هناك رؤية إستراتيجية طويلة الأمد، فالتحرر ليس معركة يوم أو عام، بل هو مشروع إنساني طويل الأمد

عليهم بناء مؤسسات خالية من الفساد. مؤسسات قادرة على بناء وطن للجميع وليس لفئة. عليهم الفصل بين موروثاتهم العقائدية وإدارة واقعهم، والسماح لقطاع أكبر من الأفراد المستقلين، وأصحاب الرؤى والشباب في إدارة الواقع وصنعه.

عليهم أن يعيدوا تشكيل هُويتهم الوطنية بناء على أسس جديدة. ربما حينها يستطيعون إيجاد طريقهم. وفي خضم هذه الفوضى، تبرز تساؤلات صعبة لكنها ضرورية: هل خلاصة الأحداث الماضية خدمت الفلسطينيين؟ أم فاقمت معاناتهم؟ وهل ما حدث في الشرق الأوسط مؤخرا خدم المجتمعات والدول؟

الأسئلة ليست عن النوايا، بل عن النتائج: ماذا تحقق؟ وكيف تأثرت حياة الناس؟ لطالما كانت القضية الفلسطينية رمزا للنضال من أجل الحرية والكرامة، ومع ذلك، فإن ما يحدث اليوم يُدار بعاطفة غاضبة، دون حسابات دقيقة لتوازن القوى أو التداعيات المستقبلية. فالقرارات التي تُتخذ تحت وطأة الانفعال قد تبدو مبررة لحظيا، لكنها غالبا ما تؤدي إلى نتائج كارثية.

الموضوع يتم طرحه في سبيل عصف ذهني لإيجاد حل، فهذا الواقع الذي يكرر ذاته لم يكن يوما الحل. الأوطان وجدت لعيش الأفراد فيها بكرامة. أن نحيا كي يحيا الوطن، لا أن نموت كي تحيا نخبة من الأفراد. فكل إنسان له قيمة وكل فرد له الحق في عيش كريم. وإلا ما الفائدة من كل هذا التطور البشري؟ وما الغاية من وجودنا إن كنا فقط نبرع في صنع الجحيم؟

الاعتراف بالواقع ليس خنوعا، بل خطوة أولى نحو بناء إستراتيجية فعّالة. من الواضح أن موازين القوى ليست في صالح الفلسطينيين اليوم. لا بد من التفوق في التكنولوجيا، والقطاع العسكري، والدبلوماسية، وحتى في القدرة على صياغة الرواية أمام العالم من جديد من أجل التحرر. وإلا لا نتائج إيجابية من المواجهة المباشرة غير المتكافئة، التي قد يكون من الأفضل التوقف مؤقتا عنها لإعادة ترتيب الأوراق. التوقف يمنح فرصة لإعادة البناء.

◄ شعوب المنطقة، والشعب الفلسطيني بشكل أساسي، خرج منهكا بعد تعرضه لخسائر كبيرة، في الأرض والمال وتشتت البوصلة وزيادة التضييق عليه في حركته

قد يبدو الحديث عن “التوقف” صادما، لكنه ليس هزيمة. بل هو فرصة لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني وبناء قيادات موحدة، وتعزيز التعليم، وتطوير الاقتصاد الداخلي، كلها خطوات تُهيئ الفلسطينيين ليكونوا أكثر قوة واستعدادا لمواجهة المستقبل. هذه خطوات لم يفعلها الفلسطيني سابقا، وفي النهاية أثّرت على واقعه.

نقطة ثانية، من المهم أن تكون هناك رؤية إستراتيجية طويلة الأمد، فالتحرر ليس معركة يوم أو عام، بل هو مشروع إنساني طويل الأمد.

ما يحدث اليوم في فلسطين والمنطقة لا يمكن فهمه بمعزل عن المصالح الإقليمية والدولية. ومع ذلك، فإن الشعب الفلسطيني يملك قوة هائلة إذا استطاع تنظيم جهوده وتوجيهها بحكمة. أما الخطوات غير المدروسة تزيد من المعاناة، بينما التخطيط الإستراتيجي المدعوم برؤية إنسانية وشجاعة فكرية يمكن أن يكون الطريق الوحيد للخروج من الظلمات.

الحلول ليست سهلة، لكنها ممكنة. والأهم، أن نُبقي العقول متيقظة والقلوب مفعمة بالأمل، لأن العاطفة وحدها لا تكفي لبناء مستقبل أكثر عدلا واستقرارا.

9