"ديفيليه 19" راقصون يواجهون وباء كورونا بالسخرية

لا يوجد ما هو أكثر قدرة على التأثير من السخرية في الفن، حيث يهدف فن السخرية في العموم إلى إبراز العيوب ومكامن الضعف والقصور في الفرد والمجتمع على حدّ سواء ويفكك الظواهر مهما كانت معقدة ليبسطها ومن ثم يدحضها. السخرية إذن لا تتوقف عند حدودها الخاصة الآنية، بل هي رسائل جسدية وأخلاقية وسياسية واجتماعية، الهدف الأساسي منها النقد، لا المتعة الآنية فقط. وهنا تبرز صعوبة السخرية خاصة على خشبات المسرح، حيث قد تحيد بالأعمال المقدمة عن رسالتها الفنية لتسقط في السطحية والسذاجة.
يمكن أن يتحوّل الرقص الحديث كفن تعبيري حركي رمزي متمرد على الرقص الكلاسيكي إلى لقاح ضد التبعات النفسية لكورونا وكل أمراض المجتمع وسلبياته، وأن يعوض مأساة التباعد الجسدي وحالة الرعب التي نعيشها بالتقارب الفكري الوجداني، هذا ما أراد أن يقدمه المخرج والمصمم اللبناني وليد عوني من خلال العرض المسرحي “ديفيليه 19” .
يبدو العرض تغريدة جديدة خارج السرب، ففي الوقت الذي هاجم فيه البعض من النقاد الفنان المصري يوسف الشريف بسبب مسلسل “كوفيد 25” الذي زاد من حالة الرعب والهلع بين الناس وتوقعه أن يحول الفايروس من يصيبه إلى زومبي يأكل البشر، أمسك عوني مؤسس فرقة الرقص المصري الحديث بدار الأوبرا عصا المايسترو ليقدم عرضا مسرحيا يسخر من كورونا.
لم يجد وليد عوني حيرة وهو يقدم لوحات فنية من خلال عرض مسرحي يضم 20 راقصا وراقصة، تم اختيارهم بعناية لمحاربة كورونا عبر الرقص والنغمات.
اخترع العرض المسرحي “ديفيليه 19” كيفية مكافحة الوباء اللعين بالبهجة والمرح، ورفع الروح المعنوية لدى الجمهور، ناعيا التباعد الاجتماعي الذي جعل أبسط أبجديات التواصل الإنساني مفقودة، فصارت القبلات عن بعد والأحضان عن بعد، مشجعا في الوقت ذاته الإجراءات الاحترازية وتعاطي اللقاحات لمكافحة الوباء.
اختيار عوني الفكرة، وهي سلاح ذو حدين، فإما أن تحقق نجاحا لمساهمته في الترفيه عن بشر أنهكهم الفايروس، وأتعبتهم طاقات سلبية تفترسهم تنتقل إليهم عبر الشاشات في صورة أخبار تطالعهم عن وفيات وإصابات كورونا، وإما أن يهاجم في عقر داره المسرحي، ويتهم بأنه يهرج، حيث لا مجال للمزاح في المرض والموت. والواقع الصعب الذي تواجهه مختلف شعوب العالم في ما يشبه المأساة.
النقد سابق التجهيز، تتزعمه مدرسة لا للرقص الحديث التي هاجمت عوني وفرقته عند إنشائها عام 1993 بدار الأوبرا المصرية، وهاجم أصحابها العرض بدعوى أنه مزاح في موطن الجد.
القبلات بداية الحياة

يقول وليد عوني لـ”العرب” إنه يقدم العرض ليهرج ويسخر من الفايروس على طريقة “داوها بالتي كانت هي الداء”، مضيفا “أليس كوفيد – 19 يسخر منا ليلا ونهارا، وألبسنا جميعا ما يشبه اليشمك أو الباشة التي
كانت ترتديها النساء في مصر في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات مع الملاءة”.
ويوضح أن فكرة “ديفيليه 19” طرأت في ذهنه منذ بداية الجائحة وانتظر نحو عام ليعرف آخر الحكاية التي اتضح بأنها لن تنتهي قريبا، وسهر الرجل الليالي ليعد للفايروس ما استطاع من رقص وموسيقى وأغان وتابلوهات استعراضية ليسخر منه ومن تبعاته.
يؤكد عوني لـ”العرب” أنه قدم عرضا غنائيا كوميديا راقصا توعويا لا يقلل من شأن الوباء وأخطاره، ولا يهول منه، ولعب على وتر البعد النفسي الذي قد يكون أشد فتكا من الوباء ذاته، فكان عرض “ديفيليه 19” نوعا من العلاج بالفن للبشر الذين فقدوا أهم أسباب الحياة، وهو التواصل المباشر، فصارت القبلات والأحضان وكأنها ريموت كنترول تتم عن بعد.
بداية العرض جاءت بتبادل القبلات على المسرح بين الراقصين والممثلين المشاركين في العرض، ثم بتوجيه القبلات للمتفرجين، وهو ما وجد استحسانا لديهم، لكنه لم يجد استحسانا من بعض النقاد الذين اعتبروا هذه المشاهد نوعا من التحرش الجنسي، وتساءلوا هل يصلح العرض أشياء ويفسد أخرى؟
ويلفت عوني، الذي اعترض على اتهامه بالترويج للتحرش، إلى أن تبادل القبلات تحية معروفة في الكثير من دول العالم وتختلف عدد مرات تبادل القبلات، حسب كل دولة، ففي مصر مرتان، وفي لبنان أربع مرات، وهو لا يقصد التحرش إنما الرمز إلى شيء افتقدناه بسبب كورونا.
ويشير إلى أن قصة غاز هتلر السام هي التي دفعته لتبني العرض عندما أوهم الزعيم النازي معارضيه في الزنازين أنه سيطلق عليهم غازا ساما، وقام بفتح صنبور مياه فظن المعارضون أنه غاز سام فلقوا جميعا مصرعهم، إنها الحرب النفسية الشرسة التي يخوضها كوفيد – 19 ضد البشر.
الكوميديا السوداء
تم اختيار عنوان المسرحية “ديفيليه 19” كدليل على أن الحياة أشبه بالممر أو الديفيليه الذي يمر عليه البشر، فيواجهون ألوانا متعددة من الأحداث والمواقف السعيدة والحزينة، يرمز لها بالملابس والألوان المختلفة، هذا أسود كئيب، وذاك أبيض نقي، وذلك أحمر مبهج، أليس هذا يمثل سببا كافيا لإطلاق اسم “ديفيليه 19” على المسرحية، هكذا تساءل عوني.
عبر عرض سريالي ساخر من كل شيء متعلق بكورونا عرض عوني عدة لوحات راقصة واستعراضات متنوعة، استعان فيها برقصات من أعماله السابقة تدعم الفكرة، مثل أخناتون، وسترة نجاة تحت المقعد، والفيل الأرزق.
وظهر العبث واللا معقول وقمة السخرية في مشاهد إعطاء لقاح كورونا، فهذا شاب يأخذ المصل فيتحول إلى دب، وآخر يأخذه فيصبح مثل أحذية السيدات، وامرأة تأخذ اللقاح فتتحول لرجل، كلها مشاهد تفجر ضحكات المشاهدين في ما يشبه الكوميديا السوداء، وكنا نتمنى لو دعم المخرج هذه المشاهد بمشهد جاد بعيدا عن السخرية حتى لا يختلط الأمر لدى المتفرج ويستهين باللقاح الذي أصبح حاليا حياة أو موت.
الكمامة أصبحت أشبه بالملابس الداخلية التي تستر العورة، فكرة أساسية قدمها المخرج وليد عوني فعندما يريد الشاب من الفتاة أن تقوم بخلع الكمامة استجابة لحبه، يقوم هو أيضا بخلع الكمامة ليطالبها بممارسة الحب.
فكرة خلع الكمامة استجابة للحب جريئة، مع التسليم بأنه يسخر من كورونا، لكن أليس عدم ارتداء الكمامة نوعا من اللامبالاة والاستهتار، أم أن المخرج أراد تقديم مشهد حسي ليداعب غرائز المتفرجين وينال رضاهم ولو على حساب صحتهم.
الكمامة التي تخفي الوجه أحيانا تصبح وسيلة للخداع والغش والوقوع في المحظور تماما كما يتم استخدام النقاب في جرائم كبرى، فكرة طلت برأسها في العرض عندما يعجب رجل بفتاة ترتدي كمامة وعبر لها عن حبه واتضح في النهاية أنها تمثال على وجهه كمامة، ورغم قوة الفكرة تم التعبير عنها بشكل ساذج، ربما تعمد المخرج ذلك ليتناسب مع سخريته المستمرة من كورونا.
الارتجال أسلوب حياة وشعار يؤمن به عوني الذي قدم في أيام العرض الثلاثة الأولى عدة مشاهد إضافية عبر رقصات أبطال العرض، مثل مشهد مأساة الهند بسبب كورونا، وتحويل التوك توك إلى سيارات إسعاف لنقل المرضى.
غاب السلم والأمن والأمان في زمن كورونا وطال الأساطير والحواديت القديمة، أفكار أخرى قدمها العرض من خلال الفتاة التي تقول المشهد الأشهر في الحدوتة الشهيرة المستوحاة من قصة “فلة والأقزام السبعة” وفيها تقول فتاة “مرايتي يا مرايتي (مرآتي) من أجمل مني”، فلا تتمكن المرآة من الرد على الفتاة التي لا تظهر ملامحها بسبب الكمامة.
الأماني ممكنة
لم يوفق بعض الممثلين في نقل أفكار المخرج في عدد من المشاهد، فمن قامت بدور شهرزاد بدت متوجسة، ما انعكس على شعور المتفرجين بالملل، كذلك الراقص حامل الريشة لعب الدور بلا إحساس وسخرية لا يتطلبها المشهد.
لوحة تناول المعكرونة جاءت غامضة، هل قصد المخرج الإضراب عن تناول المعكرونة والطعام عموما خشية كورونا، أم أن الشخص النهم في الأكل يفعل ذلك من أجل إضحاك المشاهدين في مشهد يعد من أضعف مشاهد العرض؟
يزداد الغموض في لوحة فستان الزفاف الذي قدمته الراقصة الاستعراضية سوشا الوكيل، فهل قصد المخرج التعبير عن فكرة العنوسة وعدم زواج من تجاوزوا الـ35 عاما من الجنسين، أم عدم ارتداء الفستان الأبيض؟
ويذكر المخرج لـ”العرب” أنه أحيانا لا يرضى عن أعماله ويرحب بالنقد، وكثيرا ما يشعر بالندم على طريقة تقديم بعض المشاهد، مثلما حدث في عرض “ديفيليه 19″، فكان يطلب من الراقصين والممثلين إعادة بعض المشاهد في أكثر من موضع بالمسرحية.
ويؤكد أنه في اليوم الأول للعرض كان الأداء أفضل بكثير، لكن في الأيام التالية قل مستوى الأداء بسبب غياب الحماس عن بعض أبطال العرض فتأثر باقي العناصر بذلك.
يقع اختبار الممثلين على عاتق عوني الذي اختار سوشا الوكيل أقدم الراقصات سنا في فرقته لتقديم مشهد فستان الزفاف، واختار شابا راقصا بالفرقة معروف بأنه كثير الجدل ليقوم بدور حقنة المصل وهكذا.
وقد شهد العرض عودة عوني كراقص ومغن وراو للوحات المسرحية، وخروجه من عباءة عروض السيرة الذاتية التي قدمها.
كانت سينوغرافيا المسرحية بسيطة جدا لا تتجاوز حائطا لتعليق الملابس، ويبدو أن المخرج تعمد ذلك للرد على المشككين في نجاحه، ونسبته لعناصر الإبهار التي يعتمدها فقدم عرضا يكاد يكون خاليا من كل عناصر الإبهار، من إضاءة وديكور، ونجح بسبب رؤيته كمخرج وقوة فكرة العرض.
واعتمد المخرج والراقص اللبناني على الموسيقى المعدة مسبقا، برغم استعانته في عروض سابقة بكبار الموسيقيين، لكن يبدو أنه استلهم من الموسيقى الموجودة بعض الأفكار التي تدعم فكرة العرض الأساسية، مثلما حدث في مشهد شهرزاد من استعانته بموسيقى “والت ديزني الراقصة”.
وجد عوني في بداية تأسيس فرقته معارضة كبيرة لعدم فهم البعض لما يقدمه من عروض ورقصات عالمية، لذا اتجه لتقديم العروض التي تتناول شخصيات مصرية شهيرة كنوع من التقارب مع الجمهور وقدم استقالته كمدير لفرقة الرقص المسرحي الحديث بعد ثورة يناير 2011، لكنه لم يغادر القاهرة، ثم عاد من جديد بعد تكريمه في دار الأوبرا المصرية.
ينتهي العرض بلمسة أمل وتفاؤل وبتبادل القبلات الهوائية مجددا بين أعضاء الفرقة والمتفرجين ثم نزولهم إلى الصالة لتعقيم المكان لتشجيع الإجراءات الاحترازية، ولسان حالهم يقول “لا تزال الأماني ممكنة”.