مركز للسجاد في مصر يحوّل الفقراء إلى فنانين

أن يصنع الفقر إنسانا يعتمد على نفسه في كسب رزقه فذلك هو الأمر العادي، لكن مركز واصف للسجاد في الجيزة يصنع من أهل الريف الذين تخلوا عن الزراعة بسبب قلة مواردها فنانين يصنعون من السجاد لوحات ذات مواضيع فنية تنفرد عن بعضها البعض، لكنه اليوم بات مهددا بسبب وباء كورونا وتوقّف حركة البيع.
القاهرة- لا يمثل مركز ويصا واصف بقرية الحرّانية في الجيزة المجاورة للقاهرة منفذا لبيع السجاد فقط، لكنه مصدر رزق وأكاديمية فنية لتصنيع لوحات من السجاد بأيادي سيدات القرية اللاتي تركن أعمال الحقل والفلاحة واحتضنهن المركز وكبرن وأصبحن فنانات، باحثات عن أحلامهن عبر خيوط سجادة.
ويصا لصناعة لوحات السجاد اليدوي من النسيج العديد من الزبائن حول العالم، وتكمن وراء السجاجيد قصص إنسانية لسيدات قرويات تمثل خيوط النسيج لديهن مصدر حياة وليست فقط بضاعة أو مصدر رزق.

يضم المركز الذي تأسس منذ سبعة عقود شريحتين الأولى، 20 سيدة التحقن به وهن أطفال وتعلمن حرفة إبداع لوحات السجاجيد فيه، ، والثانية أطفالهن ويمثلون الجيل الجديد من مبدعي السجاجيد بالمركز.
يعاني المركز من تداعيات الإغلاق منذ بداية جائحة كورونا، حيث أغلق لشهور بعد أن غاب عنه الزبائن الذين كانوا يفدون إليه من مختلف دول العالم بحثا عن الفن الأصيل ليصبح مهددا بالإغلاق الكامل والنهائي نتيجة غياب التمويل.
وينتظر أصحاب المركز والعاملون فيه قبلة الحياة ممثلة في معرض منتظر لبيع السجاد في أريزونا في سبتمبر المقبل. ويضم المركز عددا من السجاجيد على شكل لوحات فنية جميعها مصنعة يدويا، وتستغرق صناعة السجادة حوالي سبعة أشهر من العمل الشاق بأيدي العاملات.

جميع السجاجيد تصنع من خام صوف الغنم الطبيعي، وتتم صباغتها بألوان طبيعية مستخرجة من نباتات مثل الفوة الهندي الذي يعطي أصباغا حمراء زاهية، وتأتي الصبغة الصفراء من الزعفران، والزرقاء من شجرة النيلة.
أوشكت نادية سلطان (48 عاما) إحدى القرويات والفنانات العاملات بالمركز والتي التحقت للعمل به في العاشرة من عمرها، على الانتهاء من لوحة “فونتانا وزهور البرتقال” التي بدأتها منذ سبعة أشهر مضت.
ستشارك نادية بلوحتها في معرض أريزونا المنتظر، ويسهم العائد المادي المتوقع من عمولتها في البيع في سداد جزء من ديونها التي استدانتها لتجهيز ابنتها الشابة، وتنتظر بيع السجادة للمساهمة مع عريسها في حجز قاعة عرسها المنتظر مع حلول عيد الأضحى القادم.

وتنسج سيدة صدقي نسيجها لسجادة أشجار الموز، وهي السجادة رقم 30 التي أبدعتها منذ عملت بالمركز عام 1986، وهي في التاسعة من عمرها، عندما فقدت والديها في حادث سيارة وكفلتها خالتها، فأرادت الصغيرة نسيان آلام الفقد والمساهمة في مصروفات المنزل والتحقت بالمركز لتجد السلوى في صناعة السجاد.
يختلف الأمر بالنسبة إلى سعاد محمد التي التحقت بالمركز بعد أن توفى زوجها بعد عام واحد من زواجها، وهي في سن الـ18 عاما، فاضطرت إلى التوقف عن أعمال الحقل التي كانت مصدر رزق لأسرتها، بعد أن قامت ببيع الجاموسة الوحيدة التي كانوا يمتلكونها، لتقسيم ثمنها على الورثة.

لم تتوقع سعاد أن التحاقها بالمركز لتتعلم فن صناعة السجاد على النول كمصدر رزق للإنفاق على ابنتها الوحيدة، سوف يتحول إلى قصة عشق وارتباط بهذه الحرفة، وممارستها كهواية ممتعة.
وتعلّق نوال شعبان آمالها على إعادة الحركة التجارية للمركز حتى تنجح في توفير البضاعة اللازمة لافتتاح محل منظفات ليكون مصدرا للدخل لابنها الوحيد الذي أنهى تعليمه الجامعي ولم يجد وظيفة، ومن ثم فهي تعمل بجد واجتهاد للانتهاء من لوحاتها من السجاجيد لتفوز بعمولة بيعها.
وتضطر الظروف بعض السيدات في المركز إلى العمل مثل نحمده مسعود التي عانت اليتم منذ طفولتها، فأصبحت هي العائل الوحيد لأسرتها وهي لم تزل طفلة، فالتحقت بالمركز وتعلّمت فن إبداع السجاد، وتقاضت عنه مكافأة ساعدتها على مواجهة أعباء الحياة.
بالمركز فنانات وبناتهن اللاتي علّمهن المهنة بعد أن ودعن جميعا أعمال الحقل بسبب ارتفاع أسعار الأسمدة وعدم جدوى بيع المحاصيل الزراعية، فاضطرت مسعود إلى بيع قطعة الأرض التي كانت تملكها، واحترفت هي وأطفالها الثلاثة فن صناعة السجاد.
وتتواجد نصرة ياسين الخمسينية التي ودعت العمل الفلاحي لعشقها لإبداعها في صناعة السجاد من الألف إلى الياء، بداية من تصنعيها على النول ثم صباغتها بألوان طبيعية من النباتات.
كل لوحة من السجاد تحمل عنوانا معيّنا، مثل لوحة بركة البط، ولوحة النخيل، وحصاد القطن، وشجر الأكاسيا، وجميع اللوحات تبدأ مقاساتها من عرض 120 سم وطول 200 سم، ويصل بعضها إلى ثلاثة أمتار طولا وعرضا.
وراء السجاجيد تكمن قصص إنسانية لقرويات تمثل خيوط النسيج لديهن مصدر حياة وليست فقط مصدر رزق
وقال إكرام نصحي مدير المركز لـ”العرب”، إنه تأسس عام 1950على يد المهندس المعماري ويصا واصف الذي تعلم الفنون الجميلة في باريس، واختار مركز الحرّانية ليكون قريبا من القاهرة، ثم انتقى عددا من الأطفال كانت أقصى أنشطتهم اللعب بالطين في الحقول، ومنحهم الفرصة كاملة لتعلّم صناعة النسيج على النول وترك لهم حرية إبداع اللوحات.
وأوضحت سوسن واصف ابنة المعماري الراحل لـ”العرب”، أن الأطفال في البداية أتلفوا العشرات من الخامات، إلا أن والدها لم يتخل عنهم حتى أجادوا احتراف صناعة السجاد اليدوي، وأصبحت أعمالهم تعرض وتباع في أماكن مختلفة من العالم .
وبات مركز الحرّانية للفنون وصناعة السجاد من أشهر مدارس صناعة السجاد، وبيعت واقتنيت منها لوحات عديدة عقب عرضها في إنجلترا وسويسرا والسويد والولايات المتحدة وكندا.
تحول المركز إلى مقر لعائلة ويصا واصف منذ وفاته عام 1974، وتتولى ابنتاه عملية تعليم النول والرسم على القماش بالشمع للأطفال لينتجوا أجمل السجاجيد التي باتت لوحات فنية ناطقة بلسان أصحابها.