دورة الحياة في بيروت تكمل سردها الفنانة اللبنانية زينة عاصي

"دراسة لسحابة".. مشاهد رمزية تجريدية لبيروت.
الأربعاء 2023/08/09
مشاهد رمزية لبيروت

بيروت سحابة تمر على كل البيروتيين، ومنهم الفنانة زينة عاصي، فتترك فيهم آثارا غائرة لحزنها وفرحها، وتشجعهم على إعادة تصويرها كما يرونها وكما يحلمون برؤيتها في رؤى فلسفية لونية تكمل سرد الأحداث الضائعة من تاريخ المدينة.

تقدم صالة "تانيت" اللبنانية معرضا للفنانة متعددة الوسائط زينة عاصي تحت عنوان “دراسة لسحابة”. ويضم المعرض مجموعة كبيرة من الأعمال المشغولة بمواد مختلفة تنتمي إلى الفترة الممتدة بين 2015 و2023. ويجيء هذا المعرض للفنانة اللبنانية زينة عاصي في وقته المناسب ليلقي الضوء على بضعة فصول من المسار الفني الذي اتخذته، ويشير إلى تبلور الأفكار والمشاعر تجاه مدينة كبيروت غنية بالإحالات وزاخرة بالحوادث المتناقضة التي جعلت من التصدّع ليس فقط صفة، بل هوية تنتمي إليها مدينة بيروت منذ أكثر من 60 سنة.

إلا أن ما قدمته الفنانة في معرضيْ 2018 و2020 هو الأكثر أهمية على الإطلاق. وذلك من ناحيتين؛ من الناحية الأولى سيتمكن الناظر إلى الأعمال من استيعاب المنطق البصري/التقني العام للفنانة وكيفية تطوره عبر السنوات، ومن ناحية أخرى سيتيح ذلك للمُشاهد معرفة كيف أن بيروت وسكانها في لوحات زينة عاصي هم عصب سيرتها الفنية وهم عنصران في حالة حلول في بعضهما البعض ويشكلان متحدين مرآة للإنهاك والتناقض والأزمات المتتالية.

"دراسة لسحابة" معرض يشير إلى تبلور الأفكار والمشاعر تجاه مدينة كبيروت غنية بالإحالات وزاخرة بالحوادث المتناقضة
◙ "دراسة لسحابة" معرض يشير إلى تبلور الأفكار والمشاعر تجاه مدينة كبيروت غنية بالإحالات وزاخرة بالحوادث المتناقضة

ولأجل استيعاب الجمالية الخاصة والمعاني التي تتسم بها أعمال الفنانة التي أنجزتها خلال سنة 2023 والمعروضة لأول مرة في الصالة لا بد من الإشارة إلى أن ملامح الفوضى اللصيقة بمدينة بيروت المعاصرة المرصودة على المجهول كانت حاضرة بشدة، لاسيما في معرضين مفصليين قدمتهما الفنانة سنة 2018 وسنة 2020. وهما المعرضان الأكثر قدرة على الإضاءة على منحى التبدل الذي طرأ على خيال الفنانة اليوم وعلى قدرتها في تشكيل ذات المدينة العربية، ولكن من خلال تحولات جمة لازالت بفداحتها تشير إلى مدينة بيروت وليس إلى أي مدينة عربية غيرها.

وفي العودة الموجزة إلى معرضها سنة 2018 نذكر أن هاجس الفنانة تمحور حول مدينة درامية تنطق بأشكال الحياة المعاصرة المفتقرة إلى الحميمية. كما أشبعت زينة المدينة بمآذن الجوامع وببعض الأشجار الناجية من الباطون الزاحف إلى أضيق الأزقة، ورصعتها بأجراس الكنائس واللافتات الإعلانية والدعائية ولواقط الدش والإنترنت، إلى جانب الحجر والباطون. أما أهل المدينة فرسمتهم شخوصا مُصغرة ونحيلة في معظمها، تقرأ الكتب والصحف وهي تنفث دخان سجائرها المُختلطة بالدخان المُلوث والمُتصاعد من مداخن المصانع.

أما معرضها المفصليّ الثاني فكان سنة 2020 وعنونته بـ”هذا هو الإنسان”. وبرز أثر الأزمات والفقر والحروب والتهجير والمنفى محفورا في كاهل إنسان المدينة الذي أظهرته عاصي حمّالا لوجوه المدينة حتى باتت بيروت هي القابعة فيه وليس العكس.

وجاءت مجموعة اللوحات التي عنونتها بـ “الذباب على الجدار” مأساوية – كافكاوية تحول فيها البشر إلى حشرات لا قيمة لوجودهم ولموتهم. شخوص الفنانة تحللت كالمياه المكدرة المُحملة بآثار وبقايا ملوثة وشظايا صدئة في أجواء لوحاتها الجديدة. انقبضت التفاصيل على بعضها البعض وتكثّفت الخطوط وهيئات المنازل والشرفات والبنى التحتية التي شاهدناها سابقا وتحول الوجود الإنساني إلى الكثير من الشبحية إذ تحلل هو الآخر، هو وسجائره ولقاءاته الهشة مع الآخرين حتى كاد يكون مجرد ترميز إلى أهل مدينة سابقين تقلصوا حتى باتوا جزءا من الأحجار والمعادن المرصوصة.

هنا تأتي لوحاتها الجديدة التي أنجزتها خلال عام 2023. حيث اشتد اكفهرار الأجواء الكافكاوية. وتبخرت، إذا صح التعبير، الشخوص التي عثرنا عليها في لوحاتها سابقا لترتفع إلى الهواء/فضاء اللوحات حيث السرد المشهدي لتكون الغيوم الضاغطة على نفس المدينة.

صورة 1

سُحب لخصتها الفنانة في عنوان معرضها إلى غيمة واحدة رمادية مُشبعة بالتلوث والرطوبة الخانقة وقد وضعتها تحت مجهرها للدراسة. لا غرابة في ذلك إذ يكفي أن نتذكر كيف كان الإنسان في لوحاتها السابقة كيانا منفصلا عن مدينته التي يقيم فيها بالرغم من ارتباطه الوثيق بها إلى درجة أن العديد من أطرافه كانت شبه مُتصلة بمباني مدينة شيدتها الفنانة دائما على حافة هاوية ما غير مرئية، ولكن حضورها طاغ. ثم في مرحلة لاحقة أصبح الإنسان مصهورا بمدينته، ولا نقصد المعنى الإيجابي للكلمة، إنما المعنى السلبي، أي أنه بدا منسحقا بين طبقاتها المتراكمة والمرصوصة على بعضها البعض رصا هائلا. ها هو اليوم، الإنسان، في 2023 لا يموت، بل يتحلل ويصبح بخارا، لا بل سخاما وسحبا لزجة محملة بمطر أسيدي سام يرتفع في فضاء المدينة.

◙ الفنانة لم ترسم مشاهد عادية لمدينة كئيبة، بل مشاهد رمزية غلبت عليها التجريدية لتصبح أجواء نفسية تشير إلى الكابوس

لم ترسم الفنانة اللبنانية زينة عاصي مشاهد عادية لمدينة كئيبة، بل مشاهد رمزية غلبت عليها التجريدية المُبطنة لتصبح أجواء نفسية تشير إلى الكابوس الذي استقرت عليه المدينة. نتذكر هنا الاختلاف الشديد بين هذه المشاهد الشاحبة وما رسمه الفنان التشكيلي اللبناني أسامة بعلبكي من مشاهد شتوية بالغة الشعرية تحول فيها الحزن إلى رفق وهشاشة مؤلمة غير أنها هشاشة غير حتمية ومفتوحة على الانشراح بحسنة تصدعات الغيوم ووميض أزقة بيروت الناعسة عند ساعات الفجر الأولى وعند اقتراب الغروب.

المراحل العلمية لتكون المطر وتبخره هي في شكل آخر عند زينة عاصي. فما هطل هو المصائب، بمختلف أنواعها، على رؤوس السكان والأبنية المتراصة المخنوقة بفوضى الهندسة المدنية الفائقة والإهمال الرسمي المُضاعف بازدراء الأفراد مجتمعين في لوحاتها السابقة، وكما أشرنا آنفا في لوحات 2018 و2020.

أما التبخّر فهو أيضا لهؤلاء الذين تلقوا زخات المصائب، بيوتا وأزقة وأناسا. هؤلاء أصبحوا تلك الغيوم المُسمّمة وبالتالي السامة التي تجتاح لوحات 2023. وتوقف الزمن في لوحاتها ليصبح المكان المتحجر الذي لا يُسمع/يُرى فيه إلا شهيق وزفير مدينة لم تعد موجودة فعلا إلا في الغيوم التي تكاد تكون صلبة ومتحجرة ومُعلقة فوق ما يشبه مدينة مخلخلة الملامح كانت في الذكرى القريبة والبعيدة.

هل أعدمت الفنانة المدينة في محاولة منها لاستنبات حياة جديدة اقتنعت بأنها من المستحيل أن تكون إن لم يفن ما سبقها؟ درامية فنية/فلسفية حادة النبرة يسهل تفهمها في زمن كل ما يحدث يصرخ بالباطل. ويُذكر أن الفنانة زينة عاصي من مواليد 1974 تعيش بين بيروت ولندن. تلقت دراستها في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة. وعملت في مجال الإعلان وتدريس الفن في جامعات مختلفة. لها مشاركات فنية كثيرة في لبنان وخارجه. كما لها أكثر من عشرة معارض فردية نذكر منها “ضفاف مدينتي” و”تأطير مدينتي” و”طبيعة صامتة” و”ساحة عامة”.

صورة 2

 

14