دلال فرح: الخلايا سر السعادة وتنظيف العقول مقدّم على المنازل

حكم الإنسان العالم، واستطاع أهل الأرض السيطرة على الكثير من روافدها بخلايا أدمغتهم، وهو ما جعل مجدّد علم الأعصاب كاجل سانتياغو يحاول قبل أكثر من قرن رد الفضل إلى الخلايا، فمزج عقلانية العلم مع جنون الفن وأبدع لوحات عن خلايا الأعصاب، منها لوحة شجرة الأعصاب. وعلى نهجه تسير الفنانة اللبنانية السورية دلال فرح التي كان لـ”العرب” معها هذا الحوار.
تراكمت فوائد صندوق الخلايا على البشر لسنوات طويلة، ومنذ نحو 15 عاما بدأت مرحلة فنّية جديدة عندما أخذت التشكيلية المقيمة في أستراليا، دلال فرح، بزمام مبادرة رسم لوحات مستوحاة من الخلايا تحت شعار “اهتم بخلاياك”، باعتبارها سرّ السعادة والشقاء، على حد قولها في حوارها مع “العرب”، وإذا حفظها الإنسان حفظته، وإذا أهانها أهانته، ولذلك أبدعت العديد من اللوحات في نطاق التأمل من خلال الفن، وطالبت بأن يحترم كل فرد خلاياه.
وأقامت الفنانة عدة معارض في دبي ونيويورك وباريس عن لوحات الخلايا كمدن متكاملة وآيات ربانية، بعضها بات حاليا ضمن مقتنيات متحف نيويورك، كشاهد عيان على إبداع غير تقليدي لفنانة ولّدت من معاناتها لفقدان ابنتها لوحات مستوحاة من عالم الخلايا، وشكلت بصمة خاصة في الفن التشكيلي، وطبعت لوحاتها على ربطات العنق والحقائب، وحتى كمامات الوقاية من فايروس كورونا.
استلهام الخلايا
تقول فرح لـ“العرب”، “وصية ابنتي هي السبب الأساسي لاحترافي الرسم، فقد كانت تشجعني على ممارسته حتى اختطفها القدر فجأة وهي في الثالثة والعشرين من عمرها، لم أستسلم للحزن، واحترفت الرسم ولم احتر في اختيار الخلايا كي استوحي منها رسوماتي، فقد كان أصدقائي في العمل التطوعي في أستراليا يسألونني كيف أنت، وأجيب الأولى أن تسألوني كيف خلاياك، فهي المسؤولة عن السعادة والشقاء”.
وتضيف “ذات مرة قدمت لي صديقة صورة أبهرتني، فسألتها عن ماهية الصورة فأجابت إنها لخلية عصبية في جسم الإنسان، فالتقطت طرف الخيط بالصدفة وصحت مثل العالم نيوتن (وجدتها)، وقصدت بذلك الرسم من وحي الخلايا”.
وبحثت فرح في عالم الخلايا سنوات في معامل العلم وفيديوهات يوتيوب قبل أن تستلهم لوحاتها، حيث كان عالما مجهولا بالنسبة إليها، وعلمت أن الخلية تحتوي على جزيئات الحياة الرئيسية التي تتكون منها الكائنات الحية، وأن عدد خلايا الإنسان تقترب من 37.2 تريليون خليّة، وهي عدد خلايا الإنسان دون حساب الميكروبات، والكائنات الدقيقة التي تعيش في الجسم.
ويوجد في جسم الإنسان حوالي 50 مليار خلية دهنية، و2 مليار خلية في عضلة القلب فقط، و35 مليار خلية جلد، ويمكن أن يصل عدد الخلايا إلى 70 تريليون خلية، موزعة على الخلايا بأنواعها الجذعية والجذعية الجنينية والدم والعضلات والدهنية التي تساعد في انسياب التواصل بين الأعصاب والخلايا الجلدية التي تبلغ مساحتها 20 قدما مربعا.
كانت هذه المعلومات مصدرا مهمّا للإلهام الفني عند الفنانة دلال فرح، ومن وحيها صاغت رسومات تشكيلية ترمز للضعف، وأخرى للانسياب، وثالثة للقوة، وهكذا، ومن بين ستين ألف فكرة ترد على بال الإنسان يوميا توقفت عند فكرة رسم لوحات من وحي الخلايا، وانطلق معرضها الأول عام 2006 بالأشرفية في لبنان.
وتوضح أن البعض من النقاد حذروها من إقامة معارض مستوحاة فقط من الخلايا، فلن يفهمها أحد، ولن تلقى إقبالا من المهتمين بالفن التشكيلي، غير أنها أصرّت على تبني فكرة الاهتمام بالخلايا وصياغتها بالتأمل والصبر والرضا.
وجاءت لوحات دلال كأنها تزغرد وتتراقص مع الألوان والجزيئات المبهجة ذات الألوان الفاقعة، ورسمت من وحي الخلايا الورود والأسماك وحتى البشر، وظهرت جلية المدرسة الانطباعية التي تقترب منها بتوجس حتى لا تتهم بتقليد أحد، وفي أعماقها يقين بأنها خارج المنافسة مع الآخرين.
مدارس فنية
وافقت الفنانة مؤخرا على طبع لوحاتها على الملابس والحقائب النسائية والأوشحة، والأطباق والأكواب، وكمامات الوقاية من الأمراض، على رأسها كوفيد – 19، فحققت نجاحا كبيرا واستقطبت جمهورا عريضا غير قادر على شراء اللوحات، فاشتراها في صورة حقيبة أو كمامة طبية.
وأكدت فرح لـ”العرب”، أنها رفضت رسم لوحات من وحي فايروس كورونا نفسه، حيث امتلأت الساحة بفنانين فعلوا ذلك، فأصبح الرسم من وحيه مستهلكا، وتفكر بعد انحسار الجائحة في اختيار منظور غير تقليدي للرسم من وحي كورونا.
وظفت الفنانة التشكيلية في لوحاتها الأعضاء الداخلية للإنسان بشكل مبتكر، وظهر ذلك في معرضها الثاني عن الخلايا الذي أقامته مؤخرا في نيويورك، فكانت لوحة “طاقة الزمان” معبّرة بشكل جيد عن إيمانها بأن العالم متواصل مع بعضه بالطاقة، ولا يوجد شخص منفصل عن الآخر.
وداعبت فرشاة الألوان قماش اللوحات بشكل متموج عبّر عن انسجام مخلوقات الكون كله في دائرة واحدة، مستلهمة ألوان قوس قزح المبهجة، متجاهلة اللون الأسود ويرمز للحداد الذي تكرهه.
وفي لوحة “الأمل” حوت اختلاطا في المواد بين الميكس ميديا والإكريلك والزيت، وهي تداعب جزيئات الألوان، ويحنو على الظلال التي تتكاثر في الصورة، لتعلن عن لوحة جديدة تسكن الجدار المقابل بعنوان “جنين”، لتؤكد أن تلك النطفة التي لا يتجاوز عمرها ثلاثة أيام تتكون من 8 خلايا فقط، وتصل في النهاية بحمل 100 تريليون خلية.
البعض من النقاد حذروها من إقامة معارض مستوحاة فقط من الخلايا، فلن يفهمها أحد، ولن تلقى إقبالا من المهتمين بالفن التشكيلي
وفي لوحة أخرى بعنوان “احترم خلاياك تحترمك” تقترب فرح من المدرسة التجريدية في الفن التشكيلي، والتي تجرّد كل ما هو محيط بالواقع، لتعيد صياغته برؤية فنية جديدة تجنح بجنون نحو الخيال كأنها تصرخ “صونوا خلاياكم”.
أما لوحة “التأمل” التي اشتراها متحف نيويورك لتكون ضمن مقتنياته، فهي تعلن بوضوح أنها عروس معرض فني تفاعلي تعبيري للفنانة التي سافرت إلى الكثير من دول العالم، فاكتسبت من كل الحضارات مزايا وسكبتها على لوحتها، لتعلن بوضوح أن التأمل يمنح الإنسان سيطرة على العقل، ويأمره أن يكون شقيّا أو تعيسا.
يتّسع جمهور فرح، التي اتخذت من العمل التطوعي رسالة تؤديها في حياتها بجوار لوحات الخلايا، فهناك شخصيات شهيرة اشترت لوحاتها، فيما منحتها جهات علمية جوائز عقب نجاحها في الدمج بين العلم والفن.
وأبدى الفنان المصري الكبير عادل إمام إعجابه بلوحاتها غير التقليدية، عندما قام بالتصوير في سيدني بأستراليا لأحد أفلامه، بينما كانت الفنانة تمارس عملها تنغمس في رسم لوحتين الأولى بعنوان “كل الأرض”، ومستوحاة من كرات الدم الحمراء، والتي لو وضعت في خط لطوقت الأرض، والثانية بعنوان “تنفس مجاني” وهي مستوحاة أيضا من تنفس الإنسان في اليوم الواحد 23 ألف مرة، وتواصل مشوارها مع رسم الخلايا وهي تكرّر شعارها “صونوا خلاياكم يرحكم الله”.