"درون الغلابة".. تهرب من كورونا إلى عنان السماء

الطائرات الورقية تنتعش في القاهرة زمن الحجر في ظل إغلاق نوادي الفيديو جيم وغياب الألعاب الإلكترونية.
الأربعاء 2020/06/17
لعبة الكبار والصغار

طالت فترة الحجر الصحي على المصريين الذين تملّكهم القلق بعد أن جلسوا طويلا أمام التلفزيون وأبحروا عبر الإنترنت وألعاب الفيديو، لكن ذلك لم يكن كافيا للخروج من الحالة النفسية التي بدأت تتأزم سوى باسترجاع لعبة الطائرات الورقية التي غابت أمام الألعاب الإلكترونية.

الأرض، فالسماء لا زالت تتسع للترفيه والتواصل. انطلاقاً من تلك الفلسفة، أزالت جائحة كورونا الصدأ عن لعبة فلكلورية ارتبطت بأجيال لم يعهدوا ألعاب الفيديو، فرجعت وردتها إلى الحاضر بزخم غير مسبوق.

اللعبة التي كانت محض تسلية، باتت وسيلة للقاءات افتراضية بين جيران وأصدقاء وغرباء، الكل يبلغ الآخر، “أنا هنا، أشاركك الشعور ذاته”.

يتحدث مصريون عن ظاهرة غزت السماء في كافة المحافظات والمناطق. يسأل أنس أحمد (22 عاماً) سائق السيارة التي يستقلها على كوبري عباس في القاهرة، عن سر انتشار الطائرات الورقية بتلك الصورة الكبيرة فوق النيل، فيجيب الآخر وهو شاب ثلاثيني ضاحكا، “الناس فاضية بسبب كورونا”.

كان الفراغ سببا رئيسيا في عودة تلك اللعبة بعدما ندر ظهورها في السماء على مدار السنوات الماضية، لكنه ليس وحده، فالفراغ يمكن أن يدفع الناس للعب الورق، أو المكوث أمام التلفزيون والهواتف الذكية أو حتى العودة إلى جلسات السمر المنزلية، غير أن اجتياح الطائرات بتلك الصورة جاء لأن لها أسرارا أخرى.

بين الأرض والسماء

تجارة رابحة
تجارة رابحة

لن يستطيع الشخص من بعيد اختبار التجربة التي يمثلها إرسال طائرة ورقية إلى السماء، في ظل أزمة عالمية غير موقوتة، تسير كل يوم من سيء إلى أسوأ، ليصبح الهروب من كل ذلك غير ممكن سوى بالاتصال بالسماء.

في تلك اللعبة، يُفضل أن يصعد اللاعب إلى أعلى درجة ممكنة، سطح منزله مثلاً، يترقّب الهواء، ويبدأ في إرسال طائرته دون أن يطمع في أن تصل لنقطة مرتفعة، المهم أن تظل محافظة على توازنها دون أن تسقط، بعدها يبدأ في تحرير الخيط من يده، لتحلق أكثر وأكثر.

في غضون دقائق مع اللاعب المحترف، تشق الطائرة طريقها إلى عنان السماء، حتى يختفي جزء من الخيط بين السحب، يظل اللاعب يتحكم فيها يمينا ويساراً لأعلى وأسفل، يرى حركتها فيتسلل إلى نفسه الشعور بالبراح والسيطرة، كأنه هو حلق وليس الطائرة الورقية.

الطائرات الورقية باتت ملاذا لعبور الأزمات النفسية لأنها لعبة لا تقتصر على متعة التحليق بل على المنافسة خلال مباريات للصيد

يقول الثلاثيني حسن مصطفى لـ”العرب”، إن الطائرات الورقية باتت ملاذه الوحيد لعبور الكثير من الأزمات النفسية والمشاكل العائلية، ما إن تحدث مشكلة يصعد إلى سطح منزله برفقة طائرته، في غضون دقائق ينسى همومه كلها، ويعود وكأن شيئاً لم يحدث.

يُتوج شعور الراحة عنده حين يختلط بالانتصار، فاللعبة لا تقتصر على متعة التحليق، حيث تعتمد على المنافسة خلال مباريات للصيد، وتصبح كل طائرة في السماء عرضة للاقتناص من طائرة أخرى، قد تكون قريبة تحلق من السطح المجاور أو على بعد مئات المترات.

يُلقب مصطفى بـ”الصياد” بين جيرانه وأصدقائه، لكنه يؤكد أنه لا يلتزم بقواعد اللعبة التي تجعل الطائرة التي يصطادها ملكاً له، فعادة ما يرد الطائرة لصاحبها بعد أن يحتفظ بجزء منها، الخيط أو ذيل الطائرة أو أي شيء كتذكار للانتصار.

لم تحسّن الطائرات الورقية من حالة مصطفى النفسية فقط، لكنها أيضاً حسنت حالته المادية، بعدما توقف عن العمل كموظف في أحد المولات التجارية بالقاهرة بسبب كورونا، وجد في صناعة الطائرات وبيعها بديلا جيدا.

المظهر يحمل رسالة      

تختلف أسعار الطائرات حسب حجمها، وتصل إلى 250 جنيها (نحو 18 دولارا) وهي ضخمة تصل مساحتها إلى 3 أمتار.

في ضاحية إمبابة الشعبية القريبة من القاهرة، وقف العم حسين على أحد جانبي الطريق فيما الطائرات تحلق فوق رأسه قرب حلول الليل، تلتفّ حوله مجموعة من الأطفال والمراهقين، فيما يرسم على طائرة ورقية أمامه شكلا كارتونيا يوحي بأن الطائرة صنعت لطفل.

في الجوار، كان العم حسين أنهى رسم طائرة أكبر تمتد لنحو مترين، وعليها صورة لـ”الجوكر”، المعروف بخطورته وقدرته على المراوغة، ما يعني أن الطائرة تحمل رسالة لمنافسيها، قائلا لـ”العرب”، “إن الرسومات تختلف حسب طلب كل شخص، وفي كل الأحوال نلبيها”.

تعد تلك المرة الأولى التي يعمل فيها الخمسيني في صناعة الطائرات الورقية للبيع، فقد كان يعتاد صناعتها في صغره للعب بها مع أصدقائه، قبل أن تختفي لصالح الألعاب الحديثة.

الفتيات تركن الدمى
الفتيات تركن الدمى

باتت الطائرات الورقية ساحة للإبداع والتنافس، خصوصاً في ظل مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت منصة لاستعراض تلك الإبداعات. قاطنو منطقة عين شمس، شرق العاصمة، ثبتوا هاتفا جوالا في الطائرة بعدما ضبطوه على وضع التصوير، وجعلوها تحلق في محيطهم تلتقطهم والبنايات المجاورة من أعلى، ووصفها النشطاء بـ”درون الغلابة”.

في منطقة أخرى، رسم الأهالي صورة لشهيد القوات المسلحة العقيد أحمد منسي، وأرسلوها في جولة فوق الأرض، إحياء لذكرى الشهيد.

يفضل آخرون رسم صورة لناديهم أو لاعبهم المفضل، أو تدوين أسمائهم وألقابهم ومن يحبون عليها، وجرى تزويدها ببطارية وضوء.

لم تُبعد الفتيات عن تلك المنافسة، حيث تسعى صغيرات إلى اقتناء طائرة ترسم عليها فراشة أو وردة أو صورة دمية، أو مزركشة بألوان لافتة، وإن كن أقل مهارة في اللعب بها من الشباب، إذ تحتاج إلى مجهود عضلي للتحكم فيها.

هكذا أصبحت الطائرات الورقية حيلة للخروج من أزمة كورونا، فهي لن تحتاج إلى أموال كثيرة لاقتنائها، ولن تحتاج إلى كسر قواعد التباعد الاجتماعي، حيث تستخدم أسطح المنازل عادة في لعبها، وإن كان انتشارها في الشوارع جعل البعض يتهمها بنشر كورونا.

ألعاب تحلق في زمان كورونا
ألعاب تحلق في زمان كورونا

كما أن الطائرات لن تحرم لاعبها من مشاعر المنافسة والانتصار والمطاردة، فهي حل سحري، يرد الشباب إلى ذكريات طفولتهم. وتجعلهم يختبرون لعبة ربما لن يكونوا ليجربوها لولا أزمة كورونا.

يقول الطفل أحمد (12 عاماً)، إن تلك المرة الأولى التي يلعب فيها بطائرة ورقية، يصعد هو وشقيقه إلى سطح منزلهما مع عمهما الذي يتولى مهمة إطلاقها ثم يتابعهما وهما يلعبان، فتلك اللعبة بقدر ما تحمل من المتعة لا تخلو من الخطر.

يؤكد أحمد، لـ”العرب”، أنه سيستمر في لعبها كل عام حتى بعد انقضاء الجائحة، وعودة نوادي الفيديو جيم.

يتلقى صانعها، حسن مصطفى، عروضا لمشاركته في صناعة الطائرات، على أن يفتتح ورشة متخصصة في ذلك، حتى إذا بدأ المشروع الصيف القادم يكون مستعدا، كأن أصحاب العرض يراهنون على أن الطائرة التي حلقت على وقع أزمة كورونا ستصبح أطول عمراً من الوباء.

20