دراما ملحمية

هل هناك أي مساحة لإحلال العدالة، أم أن هذا النظام العالمي يُقيم تعاملاته على أساس القانون والمحاكمات الرسمية في المقام الأول؟
تتصدر الأخبار تارة بشأن استمرار محكمة العدل الدولية في النظر بالممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية “المحتلة”.
مندوبون عن دول، وزراء خارجية ومنظمات دولية ترافع أمام محكمة العدل الدولية في محاولات يائسة لإيجاد حل دبلوماسي، قانوني وحضاري في ظل النزيف الآدمي المستمر.
ثم، في مسرحية ملحمية ستُصدر محكمة العدل الدولية في نهاية المطاف رأيا استشاريا غير ملزم في المقام الأول. تنفيذيا وعلى أرض الواقع، النتيجة “صفر”.
◙ هذا النزيف يحتاج إلى قرار تنفيذي حقيقي، إلى سياسة واضحة ومباشرة قادرة على تحقيق عالم أفضل والبدء برسم بداية طريق لمستقبل أكثر وسطية وحكمة وأقل فوضوية وتطرفا
إذا تنفيذيا وعمليا، هل هناك أيّ مساحة لإحلال العدالة وتطبيقها على أرض الواقع؟ وهل هناك أيّ وسائل لإنقاذ “الإنسان” في هذا العالم؟
هل هناك أيّ أساليب وإدارة عملية تنفيذية قادرة على انتشال البشر من معاناتهم المتفاقمة؟
يُقال، ستُصدر المحكمة حكما “عاجلا” في القضية، ربما بحلول نهاية العام.
نهاية العام.. بعد أن تكون أعداد القتلى ازدادت، والمجاعة اشتدت والأوبئة استفحلت؟
هل قرارات هذه المؤسسات الدولية تُطعم عائلة جائعة؟ هل تنتشلهم من مأساة متعاظمة؟ هل تُسكت أفواه المتطرفين في العالم؟ هل تُعيد ميّتا إلى الحياة؟
هل تستطيع إيقاف مآس إنسانية متفاقمة وتداعيات أخلاقية وعاطفية وروحانية، وحتى اقتصادية واجتماعية وسياسية تتعدى جغرافيا فلسطين وإسرائيل؟
ثم نجد مجلس الأمن ينعقد للمرة ما بعد المئة في محاولة جاهدة لسماع للمندوبين والأعضاء وفي مناقشة مشاريع وقف إطلاق النار.
وفي مسرحية ملحمية مشابهة، ستجد بيانات مُكررة بكلمات هشة متطايرة لا تبني منزلا، ولا تعيد طفلا من السماء، وغير قادرة على تعبيد شارع واحد حتى.
نقاشات، قمم، مرافعات، كلمات، بيانات، استطرادات.. والحصيلة “فيتو”.
تدلي الولايات المتحدة بدلوها.. وفي طرف إصبعها، تضرب بكل هذا عرض الحائط، غير مبالية بقانون أو وجهة نظر أخرى، لا مكان في قانونها لما يقوله الإنسان في نقاط مختلفة من العالم.
بصوت واحد هي قادرة على رسم واقع مناطق مختلفة في العالم.
تخرج الولايات المتحدة وتقول “الوقت ليس مناسبا لوقف إطلاق النار”. تُبرّر بذلك وانتهى الأمر.
◙ من الجيد فتح النقاشات من جديد، وإعادة الملفات المنسية في الزاوية إلى الواجهة من جديد
لأن السياسة لا تعرف للإنسانية عنوانا ولا النظام العالمي بُني لمصلحة الإنسان.
هذا العالم بمؤسساته وأنظمته ومفاصله وهياكله مصمم لتبرير أعمال دول ومصالح شركات، لتحقيق أهداف “سياسية”، وللتأكيد على راحة ومصالحة “النخبة”.
أمّا الإنسان، كل الإنسان، لم يكن يوما أولوية.
الولايات المتحدة، شرطي العالم، أقوى قوى العالم – شئنا أم أبينا – والداعم الأول والأساسي لإسرائيل، حتى في ظل الفجوات والتحديات التي تتعاظم بين رئيسها ورئيس وزراء الأخيرة. ما تقوله “دولة” يصبح واقعا، وما يريده بنيامين نتنياهو وحكومته الناقمة على الجميع ونفسها يصبح “حلالا”.
إذا، أي نظام قائم على مصلحة “الإنسان”؟
إذا، ماذا على الإنسان أن يكتب؟ نعي لحال الإنسانية؟ وماذا على الإنسان أن يفعل؟ يقف على أطلال رومانسية حالما بإيجاد عالم أفضل مثلا؟
المشكلة في النظام العالمي، أن الشخصيات الأساسية المتصارعة هي انعكاس لبعضها بعضا في الروح والصفات والقرارات ونهج التفكير.. يتصارعون لكن يتفق جميعهم على أن لا أحد يهمه “الإنسان”.
الأولوية للفكرة، للأجندة ولأهداف الحرب، حتى وإن كان الثمن هو “الإنسان”.
تماما، كما قال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش “الأسرى ليسوا الأمر الأكثر أهمية في الحرب على غزة”.
سموتريتش الذي يمثل في تصريحاته كيفية عمل هذا النظام، والذي من الواضح أنه لا يأبه حتى لشعبه، ويرى بالرهائن قربانا يجوز التضحية بهم في سيناريو مّا، مُقابل تحقيق أهدافه.
◙ في مسرحية ملحمية ستُصدر محكمة العدل الدولية في نهاية المطاف رأيا استشاريا غير ملزم في المقام الأول. تنفيذيا وعلى أرض الواقع، النتيجة "صفر"
على أيّ حال، في نهاية المطاف، لم يكن المرء يوما ضد الحوار والنقاش والاجتماعات والبيانات والهتافات لإنقاذ الإنسان، كل الإنسان، من كل المعاناة والمأساة وواقع الجحيم الذي زُجّ به بإدراك ودون إدراك.
ولم يكن المرء يوما في معارضة لإيجاد مؤسسات قادرة على انتشال هذا العالم من الظلام الذي يتعاظم يوما بعد يوم.
من الجيد فتح النقاشات من جديد، وإعادة الملفات المنسية في الزاوية إلى الواجهة من جديد.
لكن، هذا النزيف يحتاج إلى قرار تنفيذي حقيقي، إلى سياسة واضحة ومباشرة قادرة على تحقيق عالم أفضل والبدء برسم بداية طريق لمستقبل أكثر وسطية وحكمة وأقل فوضوية وتطرفا.
لكن، حين يُبنى نظام عالمي كامل على هيكلية مشوهة وهشة وحين يكون النظام العالمي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية بناء على اعتبارات قوى عُظمى قادرة على التلاعب بالبلدان، منحت نفسها المساحة والأساليب والأدوات الكافية لتحديد مصير الشعوب، كل الشعوب، حينها يحق لنا أن نرى أن كل ما يحدث مجرد مسرحية ملحمية هزلية بائسة.
وإن كان لا.. إذا، هل هناك أيّ مساحة لإحلال العدالة يوما؟