دار الإفتاء تقدم ما يطلبه الحاكمون

من أشهر البرامج الإذاعية المصرية “ما يطلبه المستمعون”، وكان أقرب إلى استفتاء شعبي على رغبات الناس، حتى أن مطربا اشتهر بإرسال خطابات من أماكن متفرقة بأسماء وهمية لمواطنين يريدون سماع أغنياته في البرنامج. يمكن قبول مثل هذا الضعف البشري في شؤون دنيوية شخصية ترتهن بالتنافس الفني والتجاري، ولا يليق بالعلماء ورثة الأنبياء تقصّي اتجاه الريح السياسية، واقتفاء أثرها “وقوع الحافر على الحافر”. ولعل دار الإفتاء المصرية لم تشهد في تاريخها الطويل ما تتعرض له في الآونة الأخيرة من نزع الهيبة في نفوس مصريين يسخرون من حماستها وسرعة استجابتها للخطاب الرئاسي، فتدعمه بفتاوى تحت الطلب. وما أتعس الفتوى المكرّسة لخدمة السياسة.
تحديد النسل هو أحدث موجة للفتوى هذه الأيام، ويسوّق للإباحة مشايخ من نجوم الفضائيات، ولم تتأخر دار الإفتاء عن التنافس في مزاد سياسي. استدعاء الدين هو “استخدام” بمعنى جعل الدين ورجاله في “خدمة” السياسي. خلطٌ صريح للمطلق بالنسبي، واستنطاق للفقه، وتأويل النصوص لدعم وجهة النظر الرسمية في قضايا تكون أحيانا حمالة أوْجه. سلوك يسيء إلى المطلق الثابت ويخضعه لمعركة النسبي المتغير. وبتغيّر النسبي بحكم بشريته سيلزم إعادة النظر في المطلق وقاعدته الحلال والحرام، أما البشري فقاعدته الصواب والخطأ. والمثال التاريخي للمتغيرات هو تجريم الاتجار في العملات حتى التسعينات، ولو اُستفتيت دار الإفتاء لقالت إنه من الكبائر. والآن تنتشر شركات الصرافة.
بالفتاوى السياسية الموجّهة يتاح للإخوان والسلفيين والتكفيريين انتقاء تراث فقهي "خدم" توجهاتهم، ويطمْئنهم على أن سلوكهم العدواني هو الحق المبين
هناك سوابق إفتائية مضحكة استسهلت اتهام سلوك بشري بأنه كبيرة. في نوفمبر 2007 أفتى مفتي مصر السابق علي جمعة بتحريم حرق قشّ الأرز واعتبره كبيرة من الكبائر، وكان يجدر به الترفّع والنأي بالدين عن مثل ذلك الشأن. في بلد يتراجع فيه النمو السكاني وتزيد نسبة الوفيات على أعداد المواليد يمكن أن تُستدعى فتوى بالأمر السياسي، وتنص على أن تحديد النسل من الكبائر، وهذا معكوس التهافت الإفتائي لدعم توجّه رئاسي مصري يعلق فشل خطط التنمية على الزيادة السكانية، وليس على السفه في إنفاق المال العام في مشاريع غير إنتاجية، وغياب الشفافية ومنع الرقابة الصحافية والشعبية على الأداء السياسي، فيجد الفساد غطاء.
يسيء إلى الدين أن يصطف رجاله في “خدمة” السياسة وهي متقلبة وفقا لاعتبارات متغيرة تختلف عن ثوابت الدين. لم يفاجأ عبدالفتاح السيسي بأن مصر فقيرة الموارد، وقد تعددت وعوده بالرخاء قبل الترشح للرئاسة وبعدها، ولم يهتم شيخ أو مؤسسة دينية بإيضاح حكم الدين في عدم الوفاء بالوعد. وفي نهاية يناير 2021 قال السيسي في خطاب عام “الناس اللي بتقول لي أخبار التعليم إيه؟ هاقول لهم وأخبار تحديد النسل إيه؟”. ودعمته دار الإفتاء في صفحتها على فيسبوك بكتابة منشور من ثماني عشرة كلمة “القائم بتنظيم النسل أو مؤيده ليس متدخلا في قدر الله أو معترضا عليه لأنه من باب الأخذ بالأسباب”.
ردود الفعل على منشور دار الإفتاء تثير الأسى، فالتعليقات أغلبها رافض، ناقم وخشن يطرح أسئلة محرجة، وبعضها فاحش اللفظ بالسباب، ويمكن تسويغ البعض من هذا الغضب بالإشارة إلى الآية القرآنية “لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم”. الأسوأ هو اتهام الدار بالتطبيل، فقال أحدهم “طبّلوا طبّلوا من وقت ما الريس تكلم عن الأزمة السكانية، وكله طلع ينصح. خالد الجندي مرة ودار الإفتاء مرة”. وسخر مواطن “أخذتم الأوامر؟ عاش الملك مات الملك”. وكتب آخر “تقدروا تنهوا عن المنكر، ولا هتكونوا شوية فيران؟”. وتساءل مواطن “مفيش فتوى عن ظلم النسل وفقر النسل وتجويع النسل والضرائب التي فوق دماغ النسل؟”.
لم تتدبر دار الإفتاء الغضب على منشور تحديد النسل مقترنا بسياق سياسي، فأتبعته في 17 فبراير 2021 بمنشور “الشماتة بالمصائب والابتلاءات التي تقع للغير، ومنها الحوادث والموت، ليست خُلقا إنسانيا ولا دينيا… والله تعالى قال عندما شمت الكافرون بالمسلمين في غزوة أحد ‘إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس’. والنبي صلى الله عليه وسلم قال ‘لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك'”. فصوّبت السهام إلى منشور ارتبط بتعرّض المذيع عمرو أديب لحادث سير، ومنها “كل ده لأننا اتريقنا على عمرو أديب؟ تصدق وتؤمن بالله أنا لو مش مسلم ورأيت كلام المفتي ما دخلت الإسلام”.
تحديد النسل هو أحدث موجة للفتوى هذه الأيام، ويسوّق للإباحة مشايخ من نجوم الفضائيات، ولم تتأخر دار الإفتاء عن التنافس في مزاد سياسي
في أزمنة الفتن تنتعش أسواق الفقه، ويُستجلب سلاحا لقصف متبادل لا يخلو من أحاديث نبوية تواجَه بأحاديث أخرى. ففي مقابل حديث “لا تظهر الشماتة بأخيك” أورد البعض حديثا رواه البخاري عن أبي قتادة الأنصاري قال “مُـرّ على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فقال ‘مُستريح ومُستراح منه’، فقالوا ‘يا رسول الله، ما المستريح وما المستراح منه؟’ قال صلى الله عليه وسلم ‘إن العبد المؤمن يستريح من نَصَب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب'”. وكتب أحد الغاضبين “بعد حادثة عمرو أديب خرجت الآيات والأحاديث. تدافعون عن أكل عيشكم؟ كان سكران يا عم الشيخ”.
بالفتاوى السياسية الموجّهة يتاح للإخوان والسلفيين والتكفيريين انتقاء تراث فقهي “يخدم” توجهاتهم، ويطمْئنهم على أن سلوكهم العدواني هو الحق المبين. من المؤسف أن يُتهم شيخ أو مؤسسة بالميل إلى “التطبيل” الذي يلحق إعلاميين وسياسيين يوجهون مؤشر الموالاة نحو الكرسي أيّا كان الجالس عليه، ولا يخجلون من ازدواجية في المعايير. عام 2012 ختم محمد مرسي خطابا له بدعاء “اللهم دبّر لنا فإنّا لا نحسن التدبير”، فاستأسد خالد الجندي رافضا “الأمر الخطير وهو خلط السياسة بالدين”. وفي عام 2020 ختم السيسي خطابا بدعاء وابتهال إلى الله، فتوجه الجندي بالشكر “إلى سيادة الرئيس.. عندنا رئيس يدعو الله في خشوع”. ليت الشيخ كان ذَكورا.
اقرأ أيضاً: "الشيخ ميزو".. من الميدان للسجن بأمر المهدي المنتظر