خطبة القاصر في مصر خطوة للتحايل على عقوبات زواجها

يرى متخصصون في العلاقات الأسرية أن الخطبة المبكرة، مثل الزواج المبكر، كلاهما خطر على الفتاة، لأنها لا تؤسس لحياة زوجية متماسكة باعتبار أن الخطبة في سن صغيرة تصادر حق الفتاة في اختيار شريك الحياة المناسب، كما تمنعها من مواصلة تعليمها. وتلتجئ العديد من الأسر إلى الخطبة في سن مبكرة للتحايل على القانون في موضوع الزواج المبكر.
القاهرة - أظهر تدخل النيابة العامة في مصر لإحباط زواج طفلة تبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما بعد خطبتها، إلى أي درجة أصبحت خطبة الصغيرات ظاهرة تتحايل بها الأسر للالتفاف على تجريم زواج الأطفال قبل بلوغهم السن القانونية المقررة بثمانية عشر عاما.
قالت النيابة المصرية إنها رصدت تداول مقطع فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي لطفلة تظهر بفستان الزفاف، وتبين أنها تستعد للخطبة، رغم أنها لا تزال تدرس في المرحلة الإعدادية، وتم التدخل لإلزام والدها بفسخ الخطبة ورعايتها، على أن تتابعها النيابة أسبوعيا لمنع زواجها.
وباتت خطبة الأطفال أكبر من مجرد حالة فردية، حيث تنتشر على نطاق واسع في بيئات اجتماعية تقدس الزواج المبكر، لكنها تخشى الإعلان عن ذلك صراحة، فتقوم الأسرة بالالتفاف على القانون والاتفاق على أن تتم خطبة الطفلة ثم تزويجها لاحقا.
ولا يُجرّم القانون المصري خطبة الأطفال دون سن الثامنة عشر عاما، لأن العقوبة تكون مرتبطة بإتمام الزواج قبل بلوغ السن القانونية، ولا تحرم المؤسسة الدينية هذا التصرف بحجة أن الصغيرة لم تتزوج بعد، وكل ما في الأمر أنها خاضت تجربة الخطبة من دون أن تعيش مع رجل.
ويتسق هذا الفهم الضيق مع ما تسوّق له أصوات دينية متشددة من أن خطبة الطفلة في سن صغيرة تمنعها من الوقوع في الخطيئة أو الانحراف بإقامة علاقة جنسية محرمة مع أي شاب، بينما لو تمت خطبتها مبكرا، وكانت في علاقة معلنة مع شاب (خطيبها) فهذه حصانة أخلاقية لها.
وقائع خطبة الصغيرات يصعب فصلها عن إخفاق الحكومة ومؤسساتها الثقافية والإعلامية والتربوية في اختراق العادات والتقاليد والموروثات البالية
تكفي مطالعة شبكات التواصل الاجتماعي لاكتشاف معدلات خطبة الصغيرات في مصر، وأغلبهن في مراحل تعليمية يدرس بها الأطفال في عمر الثالثة عشرة، وتتباهى بها الأسرة، باعتبار أن خطبتها في هذه السن تبرهن على جمالها وأنوثتها.
ويصعب فصل وقائع خطبة الصغيرات عن إخفاق الحكومة ومؤسساتها الثقافية والإعلامية والتربوية في اختراق العادات والتقاليد والموروثات البالية التي تؤمن بها شريحة من الأسر، بأن يتم حجز الطفلة مبكرا لأحد الأقارب أو المعارف، وقطع الطريق على الغرباء للتقدم لخطبتها مستقبلا.
وتنتشر تلك الأفكار والمعتقدات بين الأسر الريفية والقبلية التي ترى أن خطبة الطفلة من شخص خارج العائلة تصرف يرقى إلى مرتبة الجريمة، ويجب أن تستمر في نفس المحيط الأسري، ويكون ذلك بخطبتها مبكرا، ولو تزوجت بعد بلوغها السن القانونية، المهم أنها “محجوزة”.
تكمن المشكلة في أن تلك الخطبة من الصعب مستقبلا التنصل منها أو فسخها بسهولة، لأنها تأسست في البداية على اتفاق شفهي وكلمة شرف بين العائلتين، وبحكم الأعراف والتقاليد، لا يجوز لأي طرف خرقها أو التنصل منها، كي لا تتأثر العلاقة بين العائلتين وتصل حد القطيعة.
ووسط ذلك الالتزام تكون الطفلة غير مدركة لكل ما يحدث حولها من اتفاقات وتعهدات، وعليها فقط ارتداء فستان الخطوبة، والجلوس إلى جوار الشاب في حفل عائلي للإعلان عن الخطبة، دون أن يكون لها رأي، أو تُدرك ماذا يجري، لأن عقلها لا يستوعب ما يحدث من خطط.
الزواج المبكر، كما الخطبة المبكرة، يؤسس لعلاقة زوجية غير سوية، يفترض فيها التفاهم والتشارك والتوافق
وإذا قررت أسرة الطفلة إنهاء العلاقة مستقبلا، لأي سبب، تصبح منبوذة، لأنها أخلّت باتفاقها ولم تلتزم بكلمتها وميثاق العهد الذي التزمت به مع عائلة العريس، والمشكلة أن فترة الخطبة قد تمتد لخمس سنوات، إذا تم التوافق على عدم الزواج المبكر.
ويعتقد متخصصون في العلاقات الأسرية أن الخطبة المبكرة، مثل الزواج المبكر، كلاهما خطر على الفتاة، لأنها في النهاية تتعرض لضغوط لا تستطيع التنصل منها، وتتم مصادرة حقها في اختيار شريك الحياة المناسب، عندما تُكمل تعليمها، لكن ما يحدث تكون بدايته الحرمان من التعليم.
وغالبا ما يتم استثمار عدم دراية الطفلة بما يجري لصغر سنها وإجبارها على الارتباط من شخص بعينه بطريقة “الحجز”، سواء أكانت تقبله أم لا، بلا إدراك لتداعيات ذلك عليها بعد سنوات، حين تصبح واعية ومدركة، لتشعر بأنها تعرضت إلى خدعة كبرى، عندما تم إجبارها على شخص لم تختره لتستمر معه طيلة حياتها.
وجزء من المشكلة أن الكثير من وقائع خطبة الأطفال في مصر يتم فسخها بتدخل جهات قضائية وأخرى معنية بشؤون الطفل، مثل المجلس القومي للأمومة والطفولة، لكن ذلك لا يحدث إلا بناء على تداول الواقعة على شبكات التواصل الاجتماعي، وتصبح قضية رأي عام تستلزم التحرك السريع من جهة رسمية.
وما دون ذلك من حالات قد لا يتم اكتشافها أو التدخل فيها، لأنها لم تظهر للناس أو تصل إلى القضاء والجهات المعنية بالطفل. وحتى إذا تم فسخ الخطبة، تظل الأزمة في التعهد الذي قطعته أسرة الطفلة على نفسها، بأن تكون الصغيرة “محجوزة” لذلك الشاب، وإن لم يحدث ذلك بشكل رسمي.
قالت عبير سليمان الباحثة الأسرية والناشطة الحقوقية في مجال المرأة إن الخطبة المبكرة تقود إلى انتكاسات نفسية للطفلة، لأنها دخلت في علاقة وهي منزوعة الصلاحية والرأي والوعي، ومن المؤكد أنها ستشعر بالخديعة بعد أن يكتمل نضجها وتصبح مدركة لخطورة الاستمرار في زواج لم تختره.

وأضافت في تصريح لـ”العرب” أن القانون يجب أن يُجرم الخطبة المبكرة، والزواج المبكر معا، لأن كلاهما يؤدي إلى نتيجة واحدة، وهي انتهاك براءة القاصر، وإجبارها على علاقة دون وعي أو فهم، ونزع حقها الإنساني في اختيار شريك الحياة بشكل عقلاني بناء على التوافق الفكري والعاطفي والجسدي.
ولفتت إلى أن الزواج المبكر، كما الخطبة المبكرة، يؤسس لعلاقة زوجية غير سوية، يفترض فيها التفاهم والتشارك والتوافق، ومن غير المنطقي والإنساني أن تظل هناك ثغرات قانونية والتحايل على زواج القاصرات بحجز الفتيات من خلال الخطبة، وهذا دور البرلمان لغلق تلك الثغرة بالتوازي مع حملة توعوية ضخمة تتشارك فيها المؤسسات المعنية.
ولا تترك خطبة الأطفال تداعيات سلبية عندهم فقط، بل تزيد أيضا الضغوط النفسية على الفتيات اللاتي يتقدمن في السن دون زواج، لأن المجتمع يربط العنوسة بسن محددة، إذا تجاوزتها الأنثى تصبح عرضة للتنمر، والفتاة تقارن نفسها أحيانا مع أخريات أصغر منها أصبحن زوجات.
ومهما كانت هناك تدخلات قضائية وحكومية لمواجهة خطبة الأطفال، تظل الأزمة الأكبر في تفكير شريحة من الأسر بمنطق اقتصادي، من منطلق أن الطفلة عندما تتم خطبتها في سن صغيرة، فمصروفاتها ستكون إلزامية على عائلة خطيبها، ما يشجع على المزيد من تلك الوقائع لرفع عبء متطلبات الطفلة عن الأسرة، خاصة إذا كانت تعاني ظروفا معيشية صعبة.