خالد نزار جنرال جزائري نافذ كسب جميع معاركه

يجهل الكثير من الجزائريين كيفية وظروف فراره إلى إسبانيا، لكنهم جميعاً تابعوا كيف سُخّرت له طائرة خاصة مملوكة لرئاسة الجمهورية، وبتشريفات التحية العسكرية، طفق وزير الدفاع الجزائري الأسبق، راجعا إلى بلاده بعد شهور من المنفى الاختياري، بسبب تهم التخطيط للانقلاب على قيادة الجيش والتآمر على مؤسسات الدولة.
أشّرت عودة الجنرال الفار خالد نزار إلى الجزائر في الأيام الأخيرة، إلى ترتيبات عميقة داخل المؤسسة العسكرية وبين أجنحة السلطة، تستهدف ترقيع الشرخ الذي أحدثه على مدار عامين، الجنرال الراحل أحمد قايد صالح القائد السابق للجيش، حين باشر منذ العام 2018، عملية تغييرات واسعة داخل المؤسسة، وتبوأ واجهة المشهد السياسي خلال مرحلة الحراك الشعبي، فكان مصير العشرات من الجنرالات والضباط السامين إما السجن أو الفرار.
لم ينتظر نزار، الجنرال المتقاعد منذ تسعينات القرن الماضي، أن تنزل عليه مشنقة الجنرال قايد صالح، فبادر إلى الهرب، لقناعة راسخة لديه منذ سنوات أن الجنرال الراحل سيُحكم عليه قبضته لو استحوذ على النفوذ والسلطة في البلاد. عداوة شديدة ضربت جذورها بينه وبين الرجل، وخصومة مزمنة بين أجنحة الجيش، ظلت صامتة طيلة العقود الماضية، قبل أن تتحول إلى تصفية حسابات مباشرة وعلنية.
تبرئة منتظرة
وفيما اعتبرت أوساط قضائية وحقوقية في الجزائر، بأن عودة الجنرال نزار لم تكن لتحمل الطابع المثير والمفاجئ، لولا الظروف التي جرت فيها، والرسائل السياسية التي انطوت عليها، لأن الملف فارغ من أصله، وما توبع به نزار، لا يدينه.
وتذكر الناشطة الحقوقية والمحامية زبيدة عسول، المحسوبة على ما يعرف بـ”التيار العلماني” المعارض والمعادي للإسلاميين، بأن عودة الجنرال نزار “طبيعية، لأن تطور الأحداث في البلاد أثبت أن التهم التي وجهت للمجموعة واهية وضعيفة، وأن السلطة العسكرية السابقة أوعزت للقضاء من أجل تصفية حساباتها مع رموز الحلقة الضيقة في نظام بوتفليقة”.
وأضافت عسول أن “الإفادات التي قدّمها المتهمون في قضية التخطيط للانقلاب على قيادة الجيش والتآمر على مؤسسات الدولة، أثبتت خلوها من قرائن الثبوت وتفتقد لأركان الجريمة”.
وتتطابق إلى حد بعيد تلك التصريحات، مع مواقف إسلاميين معارضين، حول توظيف قيادة الجيش السابقة للحراك الشعبي والضغط على القضاء للاقتصاص من خصومها في نظام بوتفليقة، وعلى رأسهم عدد من الجنرالات المعروفين بولائهم للرئيس السابق.
وذهب البعض إلى أن توجيه الاتهام لهؤلاء بـ”التخطيط والتآمر على قيادة الجيش ومؤسسات الدولة”، تكرس الحسابات الشخصية المتراكمة بين المتهَم والمتهِم، ولو كانت نية القيادة السابقة صادقة في محاسبة هؤلاء، لتمت إثارة ملابسات العشرية الدموية، لأنهم كانوا فاعلين كبار في المرحلة، في تلميح إلى ما يحوم حول دور الجيش في استهداف مدنيين وتنفيذ مجازر جماعية، بحسب ما روجت دوائر مناهضة للعسكر وللسلطة.
ورغم أن الجنرال نزار، ظلّ بعيداً عن البلاد لعدة أشهر قضاها بين فرنسا وإسبانيا، إلا أنه بقي على اهتمام ومتابعة مستمرين لتطورات الأوضاع السياسية الداخلية، وعبّر عن موقفه في عدة تصريحات شخصية أو عن طريق بعض مقربيه، انتقد فيها طريقة إدارة الجنرال قايد صالح للأزمة السياسية، ودعا في أحدها من وصفهم بـ”الشرفاء داخل المؤسسة العسكرية”، إلى “التجند من أجل منع الانحراف الذي يقوم به قائد الجيش”.
ثقة المنفيّ
تلك الرسالة كانت بمثابة التعبئة للانقلاب على الجنرال قايد صالح، الأمر الذي يثبت حيازة الرجل لداعمين وموالين داخل الجيش، رغم تقاعده منذ نحو ثلاثة عقود، وتوجيه رسالته من خارج الحدود، وهو ما يعزز فرضية اللبس الذي يلف ظروف الموت المفاجئ لقائد الجيش السابق منذ عام، ويفتح المجال أمام تأويلات الاغتيال.
ويبدو أن رحيل الجنرال قايد صالح سمح لأركان السلطة بالعمل على إصلاح ما أحدثته طريقة تسييره للمؤسسة ولشؤون البلاد خلال مرحلة الفراغ المؤسساتي، حيث يجري الإفراج تباعا عن عدد من الضباط والجنرالات الذين سجنهم على غرار حسين بن حديد، وخالد تاج، وعلي غديري قريبا.
ومن المتوقّع أن تتوسع الصفقة إلى رموز ثقيلة في المشهد الجزائري، فبعد العودة المثيرة للجنرال نزار، بعد حصوله على ضمانات أبقته حرا طليقا، رغم حكم العشرين سنة سجناً ومذكرة التوقيف الدولية، ينتظر سيناريو مماثل لمدير جهاز الاستخبارات السابق الجنرال محمد مدين “توفيق” المتواجد خارج السجن منذ عدة أشهر في إقامة رسمية للدولة، بدعوى قضاء فترة نقاهة، وقبول المحكمة العليا، أعلى هيئة قضائية في البلاد، طلب النقض في الحكم الصادر بحقه.
وبعودة الرجلين الموصوفين بـ”زعماء جناح الصقور”، إلى الواجهة تعود إلى الشارع الجزائري المخاوف من نذر مواجهة صدامية بين السلطة والشارع المحتقن، تعيد معها حقبة العشرية الدموية، فرغم سنهما الذي لا يسمح لهما بممارسة نشاط رسمي في المؤسسة، إلا أن نفوذهما وتصوراتهما بشأن مواجهة الأزمات يرجح إمكانية تشكيلهما لمصدر إلهام للسلطة الجديدة، لمراجعة التعامل مع الاحتجاجات السياسية الشعبية. كما أن صورتهما السوداوية في نظر قطاع عريض من الجزائريين لارتباطهما بممارسات القمع والعشرية الدموية، يضع كلاً من نزار وتوفيق، في لائحة الأكثر نفورا من طرف الرافضين لدور العسكر في الشأن السياسي، والداعين لإرساء دولة مدنية وتحقيق انتقال سياسي في البلاد، رغم أن الأول أعلن خلال الأسابيع الأولى للحراك الشعبي، بأنه نصح سعيد بوتفليقة، شقيق ومستشار الرئيس السابق، بعدم المغامرة وإعلان حالة الطوارئ في البلاد تفاديا لأي احتكاك أو دماء بين الشارع الغاضب وأفراد الأمن والجيش.
عراب النفوذ الفرانكوفيلي
وإذ يتمتع الجيش بمكانة خاصة في النظام الجزائري المستمد من جيش التحرير الوطني، تداول الكثير من القادة والضباط السامين على قيادته، إلا أن لمسار الجنرال نزار، بصمة مميزة، فهو علاوة على أنه محسوب على رعيل “ضباط فرنسا” الذين اخترقوا جيش التحرير في السنوات الأخيرة للثورة، عايش كل الانقلابات العسكرية المباشرة وغير المباشرة التي عرفتها البلاد في عدد من المحطات.
ورعيل ضباط فرنسا، هو العشرات من الجزائريين الذين عملوا في الجيش الفرنسي، لأسباب إرادية وغير إرادية، وجرى إلحاقهم تباعا بصفوف جيش التحرير، إما قناعة بالعودة إلى مسار الشعب الجزائري، أو اختراقا منظماً من طرف الإليزيه، بعدما تأكدت لديه حتمية استقلال الجزائر، ولم يبق أمامه إلا زرع الموالين له في مفاصل مؤسسات الدولة الحديثة، للحفاظ على امتداد ونفوذ فرنسا داخل الجزائر.
ومما يلام عليه الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، هو ترقيته للجنرال نزار، لرتبة جنرال وتعيينه وزيرا للدفاع الوطني منتصف ثمانينات القرن الماضي، على اعتبار أنه عراب التيار الاستئصالي الموالي لفرنسا، وهو اليد الضاربة للتيار الفرانكوفيلي، حيث لم يتوان عن التصريح بالقول “مستعدون للتضحية بأربعة ملايين من أجل الحفاظ على قيم الجمهورية والحيلولة دون وصول الإسلاميين للسلطة في مطلع تسعينات القرن الماضي”.
كان ذلك هو المأخذ الذي أخذه عليه تيار الحمائم في المدرستين المحافظة والإسلامية، خاصة وأن التصريح تكرس في العشرية الدموية التي عاشتها البلاد، تحت مسمى الحرب على الإرهاب.
وتعترف السلطات الجزائرية بسقوط نحو 250 ألف جزائري ضحايا في تلك العشرية، إلى جانب حوالي سبعة آلاف مفقود، بينما تتحدث تنسيقية عائلات هؤلاء عن تسجيل 18 ألف مفقود، وهي إحصائيات ينسبونها إلى الجنرال نزار، على اعتبار أنه كان وزير الدفاع خلال تلك الفترة، وبنفس التهم رفعت ضده قضايا لدى القضاء السويسري والفرنسي، واضطرت رئاسة الدولة إلى إيفاد طائرة خاصة لإجلائه إلى التراب الوطني في مطلع الألفية تفاديا لتوقيفه من طرف الأمن الفرنسي بناء على دعوى قضائية رفعت ضده آنذاك من طرف أشخاص يصفون أنفسهم بـ”ضحايا خالد نزار”.
ويبقى الجنرال نزار الذي يستعين دوما بعكازه، من أكبر الشهود والفاعلين في المشهد الجزائري مهما كان بعيدا عن مركز القرار، كما يبقى عكازه شاهدا على عصبيته وعدم التزامه بالتسلسل الهرمي للسلطة، فقد سبق له أن هش به في وجه الرئيس السابق اليامين زروال وأرغمه في منتصف التسعينات على قيادة المرحلة الانتقالية، وبعدها على منصب رئيس الجمهورية، كما ضغط على الرئيس السابق في يناير 1992، من أجل الاستقالة تمهيدا لتدخل الجيش ووقف المسار الانتخابي الذي اكتسحه حينذاك إسلاميو جبهة الإنقاذ.