حنظلة ناجي العلي مُستأنفا في لوحات الفنان الفلسطيني ساهر نصار

أصبح حنظلة ثيمة فلسطينية صالحة لكل زمان ومكان، يلجأ إليها فنانون تشكيليون كثر ليقدموها كل حسب تجربته وأسلوبه الفني، بعضهم من يحافظ على هيئته الأصلية وبعضهم الآخر يحرره من الصورة النمطية الشهيرة ويجعله متمردا فنيا ووجوديا فيجعل منه حنظلة جديدا، ذا عود صلب وقوة هائلة وذا ألوان زاهية.
هناك نماذج بصرية، وهذا أقل ما يقال عنها، يستحيل أن تُستنفد في عالم الفن بمختلف أنواعه لما تكتنزه من معان وإحالات. وليس بالضرورة أن تكون تلك النماذج مُتكلفة بصريا، بل من ممكن أن تكون مرسومة ببساطة الخطوط ومُشكّلة بتقشف لوني أقصى. نماذج بصرية يُعاد استخدامها مرات ومرات في نصوص فنية مختلفة لفنانين مختلفين لتكتسب إما أبعادا أخرى أو لتشكل نوعا من استئناف لما قدمته حينما ظهرت للمرة الأولى. وليس حنظلة ناجي العلي إلا من أحد أهم تلك النماذج وأوسعها انتشارا لاسيما في الوطن العربي.
وغنيّ عن الذكر أن حنظلة يدير دوما ظهره للمشاهدين، عاقدًا كفيه وراء ظهره. وقد ظهر أول مرّة عام 1969 وأصبح بمثابة توقيع ناجي العلي على رسوماته. ويجيء تعبير "الوطن العربي" هنا بالتحديد ليس كتوصيف جغرافي بسيط، بل إشارة إلى حالة اجتماعية/نفسية/سياسية غير مقفلة زمنيا وموحّدة استطاع صبي العشرة سنوات، أي حنظلة، أن يستوعبها ويكون ناطقا باسمها وإن كان منشأه الأول والأعمق ومورد أفكاره ومشاعره هي فلسطين. اليوم تقدم صالة زاوية الفلسطينية كشأنها دوما فنانا فلسطينيا صاعدا لساهر نصار من خلال معرض ضم أعمالا فنية له تحت عنوان "الأبدي".
ويُمكن اعتبار اللوحات، التي تصور حنظلة بعدة نسخ مختلفة ومُتشابهة في آن واحد، من الأعمال التي تستأنف ولا تعيد أو تستعيد ما قدمه ناجي العلي، رسام الكاريكاتير الفلسطيني ذائع الصيت الذي قال يوما "يللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله: ميت". وقد اعتبر الكثيرون أن ما قاله الرسام حينها كان أشبه بنبوءة إذ أنه في ظهيرة يوم 22 من شهر يوليو من سنة 1987 تلقى عدة رصاصات أصابت إحداها عنقه فيما أصابت أخرى أسفل عينه اليمنى، وغاب عن الوعي واستمر في غيبوبته نحو 37 يوما حتى أُعلنت وفاته رسميا في 29 أغسطس 1987.
ضمت المجموعة الجديدة للفنان الفلسطيني ساهر نصار التي تقدمها صالة زاوية الفلسطينية لأول مرة مجسما من مادة "الريزين" باللون الأحمر وطبعات محدودة للوحات حملت توقيع الفنان الشخصي. تقنية الطباعة المستخدمة هي الما فوق البنفسجية. ويُشار باختصار شديد إلى أن "الأحبار المُستخدمة في الطباعة ما فوق بنفسجية هي أكثر حيوية من أحبار الأوفست التقليدية. وينتج عن هذه الطباعة نسخ أكثر كفاءة تتميز بخطوط أنظف ودقة أكبر وفرصة أقل للتلطيخ".
أول ما سيلفت نظر المُشاهد هو الألوان التي استخدمها الفنان في لوحاته. ألوان دافئة وباهرة إضافة إلى استخدامه اللون الأسود الرصاصي. وإذا كان حنظلة ناجي العلي مرسوما بصرامة الأسود والأبيض كجزء من تجسيد لما تعنيه كلمة حنظلة في الأساس أي نبات ثمره شديد المرارة حتى بات يضرب المثل بمرارته، فإن حنظلة الفنان ساهر نصار ذو مرارة بطريقته الخاصة: فهو الضاحك سرا، والمُتفجرّ لونيا، والمُظهر صلابة عوده الذي يكاد يكون آليا في بعض الأعمال - وتاليا غير قابل للموت بالمعنى الذي نعرفه كبشر -والمنتصب تحت درع واق شبه كامل، والعائد دوما بجناحيه الملائكيين وتاجه الملوكي ولو كره الكارهون.
◙ اللوحات التي تصور حنظلة بعدة نسخ مختلفة ومتشابهة تستأنف ولا تعيد أو تستعيد ما قدمه ناجي العلي
وكأن الفنان في أعماله يؤكد بأسلوبه الخاص "لمن يهمه الأمر" أن حضور حنظلة "أبدي" (في إحالة مباشرة لعنوان المعرض) ولم يُطمس وإن "شبّه لهم" غير ذلك تحت ضربات الشقاء والاغتيالات المتتالية. حنظلة ناجي العلي، الذي يشبهه بلطافته وبشبه نصاعة أحلامه، يرسمه الفنان ساهر ناصر ببنية جسدية غليظة واقف بضخامته (كما في إحدى لوحاته حيث بدا كمقاتل يكظم غيظه بحكمة) ولكن أخذ بأفكار ومشاعر مُشاهده إلى ظل الزمن حيث لا يزال يقف حنظلة الصبي الوديع والمشاكس.
وإن كان حنظلة ناجي العلي جزءا من مشاهد قاتلة من الزمن الفلسطيني المرّ وهو عرضة للقتل دوما في كل رسم وفي كل لحظة، فحنظلة الفنان ساهر نصار مفتول العضلات في بعض الرسومات وقد بات فوق أيّ تهديد جسدي لأنه بات فكرة راسخة وتجسيدا معاصرا لقوة لا تزول إلا مع زوال الحياة.
وتجب الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من ذكر ناجي العلي أن حنظلة هو رمز الانهزام والضعف في الأنظمة العربية إلا أنه يقول أيضا "الصبي ذو العشرة أعوام يمثل سنه حين أجبر على ترك فلسطين ولن يزيد عمره حتى يستطيع العودة إلى وطنه، إدارة الظهر وعقد اليدين يرمزان إلى رفض الشخصية للحلول الخارجية، لبسه لملابس مرقعة وظهوره حافي القدمين يرمزان إلى انتمائه للفقر".
أما حنظلة الفنان ناصر فلا عمر محدد له ولا "لرفضه للحلول الخارجية". أما الفقر فقد تمثل في لوحات الفنان بأسلوب معاصر جدا من خلال ملابس غير اعتيادية تبدو أحيانا أنها شبه دروع وأحيانا أخرى ممزقة تكشف على بنيان حنظلة العظمي، في حين يبدو جسده يميل إلى الأثيرية بسبب الفراغ الذي يقبع كقوة مغناطيسية بين أجزاء من جسده المفكك.
يُذكر أن الفنان متعدد الوسائط ساهر ناصر من مواليد غزة بفلسطين سنة 1986. تخرج في كلية الفنون التطبيقية في فلسطين ثم تخرج في جامعة "هيرثفوردشاير" في بريطانيا. بدأ حياته العملية كرسام للرسوم التوضيحية وعمل أيضا في فن التصميم الداخلي. ولكن ما هي إلا فترة قصيرة حتى اكتشف شغفه بالفن لينطلق حصرا في هذا المضمار.
يستخدم الفنان مختلف الأساليب الفنية والمواد المتنوعة ليوظفها في خدمة أفكاره التي يتشابك فيها الاجتماعي بالسياسي. وتراوحت أعماله ما بين الفن المفهوم والبوب آرت (ونذكر أن مجموعة "حنظلة" تنتمي إلى هذا النمط الفني). له مشاركات كثيرة في معارض جماعية كما أقام معارض فردية وله مجموعات فنية تحت عنوان "إغواء" و"استعارة" و"شبكة اتصالات".