حميد سعيد.. الموريسكي الذي لا يتعب

حميد سعيد، شاعراً وإنساناً، شكّل في الضمير الجمعي العراقي أيقونة محبة، لا يخفى تأثيرها على أحد، وامتد هذا التأثير والحضور إلى ربوع الوطن العربي، وربما إلى العديد من مراكز البحث في الجامعات الأجنبية. حوله كتبت العديد من المؤلفات التي لم تتوقف عند شعره فحسب.
العطاء الذي قدمه الشاعر العراقي حميد سعيد طوال مسيرته لم يقتصر على جنس أدبي واحد، بل تعداه إلى البحث الأدبي والمقالة الصحافية والدراسة الرصينة التي تزيل الغبار عن الغوامض في شتى صورها، وصدرت له عدة كتب في المناحي التي ذكرتها، وأعيد طبع البعض منها أكثر من مرة، إلى جانب دواوينه التي تحظى بمتابعة جماهيرية واسعة.
مؤخرا أنهيت مطالعة آخر كتاب صدر عن حميد سعيد، من تأليف الناقدة إنصاف قلعجي بعنوان “تطواف في حدائق الموريسكي عن الشاعر حميد سعيد”.
ضم الكتاب عدة فصول وأبواب منها “معضلة الكتابة” و”لم يبقَ أحد في البايثين” و”الموريسكي… الذي لا يتعب” و”محاورات حميد سعيد في ‘أولئك أصحابي‘” و”ما تأخّر من القول… ليس نهاية القول” و”إطلالة عبر شبابيك حميد سعيد الجديد”.
وحسناً فعلت الكاتبة حين قالت في مقدمتها: لا يحتاج شاعر كبير مبدع مثل حميد سعيد إلى مقدمة للتعريف به، فقد وجدت عشرات الكتب والدراسات حول تجربته الشعرية الثرية، فأن تكتب عن الشاعر حميد سعيد يعني أن تضع أصابعك في جمر حرائقه واشتعالاته، وتدخل في أزقة لا تعرف منها خروجا، وفضاءات تبهرك بنورها وتوهجها.
ففي كل ركن اعتزل فيه الشاعر، وما كانت عزلة بقدر ما كانت ضجيج الروح، ترى بحدسك أشخاصا ومقاهي بغداد ووجوها من الحلّة وقادة عسكريين ومدنا صاخبة وأنهارا وصيادين وطفلا يضج بالأسئلة في طرقات الحلّة، وجوها تحسها دون أن تراها، فحركة الحياة هناك مستمرة في ذاكرة هذا الموريسكي الذي لا يتعب… وعانى من غربة الموريسكيين الذين طردوا من غرناطة وقرطبة كما غربته منذ احتلال العراق وتدميره.
معضلة القصيدة

الكتاب مبهج في سرده الكثيف لعالم الشاعر ويمثل رفقة ثقافية رصينة في زمن اضمحلت فيه الرؤى الأصيلة
تجربة الشاعر حميد سعيد تجربة حياتية وإبداعية ثرية بما تشمله من قراءات متنوعة وسفر عاشه بكل غناه من أناس وثقافة وأماكن متنوعة وتاريخ حضاري منذ نشأته في العراق، ثم التزامه المطلق بقضية فلسطين، ثم إسبانيا ثم المغرب. يقول سعيد “منذ البدايات، وما زلتُ أشرّع، أبواب الحياة ونوافذها، للقصيدة، من الماضي والحاضر، من العربي والأجنبي، من الشفهي والمكتوب، من الواقعي والأسطوري، مما أسمع وما أرى، من الشعري والنثري. من كل هذه المرجعيات أفدت، وبها كلها“.
ويضيف “إن مرجعيات الإبداع هي مرجعيات الحياة، ليس في الشعر فحسب، بل في جميع عناوين الإبداع، وإن من يحاصر أفق إبداعه بمرجعية واحدة سيكون بمنأى عن جوهر الإبداع”.
أخذ سعيد حروفه من بئر يعبق بالذكريات، من طفولة هانئة وشباب ثائر، وانتماء ثوري متمرد، وذكريات غنية بالأصدقاء والمدن والقارات والحب والأحزان. يقول “يلحّ علي سؤال دائم: ما العلاقة بين الشاعر أي شاعر وقصيدته؟ هل القصيدة هي الوجه الآخر للشاعر؟”.
ويقول أيضا، في كتابه الأقرب إلى السيرة الذاتية “البحث عن أسرار القصيدة 1988”، “حاولت الإيحاء بعلاقة ما بين السيرة الذاتية للشاعر والسيرة الذاتية للقصيدة في كتابي ‘الكشف عن أسرار القصيدة‘ وعلاقتها بالمكان في كتابي الآخر ‘المكان في تضاريس الذاكرة‘. فهل تختلف سيرة القصيدة عن سيرة الشاعر إن لم تكن إلا نبضه الحقيقي يتجلى في الحروف؟”.
ويضيف “عبر عقدين من الزمن، عمر تجربتي في كتابة النص الذي أريد وانتظار النص الذي يأتي، أختزل أعمارا وتواريخ، أحداثا وثقافات، مدنا ووجوها، أسماء وملامح، نساء وقصائد”.
إن الدخول إلى عالم حميد سعيد ليس سهلا؛ فكل باب تلجه تهفّ من حولك روائح الياسمين والقرنفل والنارنج والبربين، سواء كانت في بساتين الحلّة أو بغداد أو قرطبة أو غرناطة، “وتحنو عليك شجرة الصفصاف”، فتقف بالتالي مأخوذا بضوع حروفه الشعرية والنثرية. ولكن خلف الأبواب يقف العراق، وتقف بغداد بنارها ولهيبها، وما خلّفه الاحتلال من دمار وحزن وكثير يدخل في”غابة الرماد”.
عن معضلة القصيدة التي تأتي ولا تأتي يقول سعيد إنه “ليس أقدر على القصيدة من المشاكسة”، خاصة إذا ارتبطت بزخم وطني جماهيري عارم، رغم أن القصيدة تمنعت في مواقف كثيرة لديه.
كان الحدث عظيما، والجماهير العراقية تدفقت عن بكرة أبيها إلى ساحة التحرير في بغداد حين أعلن العراق في بداية عام 1972 عن قراره تأميم نفط العراق، واستعادة الحقوق الوطنية المغتصبة. كان سعيد أثناءها يحزم حقائبه استعدادا للسفر إلى مدريد مقر عمله الجديد. فكان السؤال: كيف يترك العراق “وهو يقترب من الحلم الذي انتظرته أجيال من العراقيين”، فكان “موزعا بين الحزن والقلق والانتظار. أتمنى أن تسرع معركة التأميم، وأن تتباطأ أيام مغادرتي بغداد”.
كان الصراع والقلق والاختناق والأسئلة والمشاعر كلها تجيش في نفسه، إذ يشعر بأنه لا يستطيع السفر قبل أن يشهد إعلان تأميم النفط، فعصى أوامر السفر. وفي الوقت ذاته كانت القصيدة بهذه المناسبة الجليلة تتأجج في داخله وتتمنع عليه.
يقول الشاعر عن قصيدته “يا لهذه المخلوقة الجميلة النافرة، كلما أسكنتها في بيت الطاعة تمردت واختارت الغياب، فإن رضيت بغيابها أطلت بسحرها وأدخلتك في حرائقها”. ولعل غيابها -أو تمنعها- تجلى في قصيدة “عن القصيدة”، إذ كان المخاض صعبا “لأن ذلك آت من ضجيج الشِّعر في رأسي، قبل لحظة الكتابة، والذي يستمر أحيانا زمنا جدّ طويل”.
ويرى سعيد أن هذه المعاناة يعبر عنها بالقصيدة المراودة لا القصيدة المتمنعة، فهي تشتعل في ذاته منذ الحدث الكبير، تأميم نفط العراق؛ تراوده، تضج حروفها في ذاته وتؤرقه، وكما كتب “كلما راودته القصيدة أوقفته على بابها ليلتين”، وقال أيضا “أيتها المتواطئة الآن أقدر أن أتجاوزَ حرّاسك الألف، أن أستبيحكِ…/ أن أضع اسمكِ بين الذين يجيئون كالماء لا تسألي”.
وتمّ التأميم، واسترجع النفط العراقي وجهه الوطني النقي بعيدا عن الشركات الاستعمارية. يقول الشاعر “وبصمت غادرتُ البيت. ووجدت نفسي في ساحة التحرير، لا أستطيع أن أقترب من حرائق الفرح تلك، وكيف عبّر الشعب عن ذلك الموسم الثري. بغداد بكل ملايينها تدفقت إلى الشوارع، هتافا ورقصا، لا أدري من أين خرجت كل تلك الطبول والزمور، ومن أين جاء الناس بأفانين التعبير عن الفرح. ما زلت أذكر شخصا طويل القامة. يرقص وسط الجماهير شبه عار، حاملا سيفا صقيلا لامعا. لا يلتفت إلى ما حوله وكأنه يمارس طقسا خاصا به. هل كنت الصامت الوحيد. وقد وقفت في بداية شارع السعدون أتأمل الناس وأمد بصري إلى جدارية جواد سليم ومن خلالها أستحضر تاريخ الوطن“.
“أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر/ أما للهوى نهي عليك ولا أمر” رائعة أبي فراس الحمداني. لكن سعيد يضيف “إن عصيّ الدمع صارت عيناه تسحان الدمع غزيرا، ومن خلال الدموع رأيت كل الناس إنسانا واحدا. وكل الوجوه وجها واحدا. ورأيت رموز جدارية جواد سليم تخرج من قيود البرونز الثقيل وتنزل إلى ساحة التحرير وتغيب في الزحام“.

خلف الأبواب يقف العراق، وتقف بغداد بنارها ولهيبها، وما خلّفه الاحتلال من دمار وحزن
هل كان على حميد أن يكتب في هذه المناسبة العظيمة قصيدة انفعالية كما يفعل الكثيرون طالما القصيدة تتمرد؟ يقول “وفي حالات كهذه، نعرف أن النص الإبداعي يتكئ على شرف القصد، كما يقولون، فيتنازل عن شرطه الفني، وتتآخى النصوص بالشبه الانفعالي”. لكنه “حاول أن يوسّع فضاء هذا الانتصار الكبير، وأن يترك أثرا شعريا في أفق الفرح. وبين عصيان القصيدة واستمرار المحاولة والعصيان، جاءت هذه القصيدة”.
قصيدة بعنوان “عن القصيدة”. إنه الحوار المتأجج الصامت، والمعركة التي لا تنتهي بين القصيدة وشاعرها. وقد كانت قصة يوسف مع امرأة العزيز إلهاما له، إنها كما يقول “تستعير موقف المرأة التي راودت فتاها، لكنها لا تمزق قميصه من دبر وإنما توقفه على بابها ليلتين، وإذ ينفر هناك ويرتضي السجن، فليس للشاعر من خيار غير الانتظار، وقبول الغواية”، يقول في مطلع نصه “كنتُ أعرف أن انحسار قميصكِ/ بدء الطريق/ وما قتلوه… وما/ يتها المتواطئة انتشري… إن عريك مغفرةٌ/ وشذاك عرائش كرم…
لعبت بنا ولعبنا/ أرى وجهك الآن يفرعُ عن مدن وأراك تنامين كالطفل، تبتسمين/ يتها الطفلةُ المتوحشة الآن أدخل بيت أبيكِ،/ أخلّعُ أبوابه/ يتها الطفلة المتوحشة… الفقراء ينادون:/ إنا غفرنا لها عريها/ وغفرنا لها كلما كان/ إن قيودك تسقط قبل الصباح كزهرة اللوز”.
والسؤال الذي يتوارد إلى ذهن القارئ عندما يقرأ “يتها” بدلا من “أيتها”، هل هي خطأ مطبعي؟ لكن من خلال التكرار يدرك أن الجواب عند الشاعر. يقول سعيد “بعد شطري المفتتح (كلما راودته القصيدة أوقفته على بابها ليلتين) الذي يتحول إلى مقطع يمهد لصعود التجربة ليس بالنقاط/ علامات انتهاء المقطع/ بل بالتوقف اللحنيّ الحاد، والدخول إلى عمق التجربة بالنداء، إن حذف الألف من أيتها وإبقاء يتها فقط ليس مجرد لعبة شكلية تعتمد جوازا لغويا، بل هو استدراك لتجاوز ذلك التوقف اللحنيّ الحاد في النون الساكنة، وتحقيق وحدتين الأولى موسيقية، والثانية في بناء النص”.
ولنا أن نتساءل: لماذا غفر لها الفقراء عريها؟ يجيب سعيد “إن الإشارة إلى التي غفرنا لها عريها، وغفرنا لها كل ما كان، ومن قبل معرفة الراوي بأن انحسار قميصها بدء الطريق، هو نمط متميز من نمط التعبير عن السياسة”. إنه وجع الكتابة الذي تخلفه قصيدة مراودة عن نفسها، لكن بالمراوغة، حتى قال عنها الكاتب عبدالحميد العلوجي، كما يذكر الشاعر بعد نشرها، “إن حميد سعيد يتغزل بامرأة جميلة ويريد أن يوهمنا أنه يكتب عن تأميم النفط”. ولمَ لا… “حين تأتي التجربة من خلال حرائق المحبة… المرأة أو الإنجاز“.
حميد سعيد الإنسان
على هذا النحو تستمر الكاتبة في مشوارها مع إبداع الشاعر حميد سعيد، في كتاب قاربت صفحاته على المئة، بطباعة أنيقة، وعلى الغلاف الأخير نقرأ سطورا بالغة الأثر والتأثير تتحدث عن حميد سعيد الإنسان، كتبها الموسيقار العراقي علي عبدالله.
قال عبدالله فيها “قامة عراقية، عربية، أنظر إليها من سفوح غربتي وغربته. كما كنتُ أتطلع إليه كمنارة من منارات بلادي المبهجة في الشعر والفن والأدب، وأتأمل شخوص قصائده التي تحمل صفات الجمال من رقي ونبل وذوق. حين التقيته قبل أربعين عاما تقريبا، واقتربت من رحابه الغنية، تعززت ثقتي بهارمونية العلاقة بين شخصية المبدع وشخصياته الواقعية، وبدت تلك الشخوص تحمل بعضا يسيرا من صفاته الحميدة المتعددة”.
وأضاف “رأيته خلال تلك الأربعين، إذا حضر، فهو محضر خير وطيب، وإن غاب يحضر محضر ذكر وطيب. كنت كلما خذلتني الدنيا، واسودت آفاقها، أذهب إليه، فأعود من رحابه مزهوا. تزدهر روحي قوة وسعادة، وكنت أسأل نفسي دائما: كيف لرجل يمثل هذا النقاء. يجمع في آفاقه الواسعة إلا أن يكون منارة من منارات بلادي. إنه حميد سعيد. نهر من أنهار بلادي التي ترنو لتصب في شواطئ العرب”.
الكتاب مبهج في سرده الكثيف لعالم حميد سعيد، ولا تكفيه هذه العجالة التي اعتمدت على الجزء الأول منه فحسب، وبقت مدارات عديدة في ثناياه الأخرى، ربما يحين الوقت لمتابعتها لاحقا، فالكتاب يمثل رفقة ثقافية رصينة، في زمن صعب، اضمحلت فيه الرؤى الثقافية الأصيلة وزاد هوس الإصدارات الكثيرة الحاملة لكم من الكلمات، لا تسمن ولا تغني من جوع، حيث بتنا نجد شعراً بلا قصيدة ومقولات ولا مقالات ومواقف ولا سياسة. فيما أصيب بعض الكّتاب بالدوار في كتاباتهم، فأصبحوا أشبه بمثل من يتأبط ذراع أعمى.