حملات مقاطعة السلع تحرج الحكومة المصرية

القاهرة - أحرجت حملات مقاطعة الأسماك التي نظمها مواطنون الحكومة المصرية وأظهروها كأنها عاجزة عن التدخل لمواجهة الغلاء وجشع التجار في الأسواق، بعد أن نجحت المقاطعة الشعبية في انهيار أسعار الأسماك وتراجعها إلى مستويات قياسية، أجبرت الكثير من التجار على البيع بالحد الأدنى من تحقيق هامش للربح.
وانطلقت شرارة المقاطعة الشعبية من محافظة بورسعيد، في شمال شرق القاهرة وتقع ضمن إقليم قناة السويس، بعد أن ارتفعت أسعارها بشكل جنوني، على الرغم من أنها من المحافظات المنتجة للأسماك، ما دفع الأهالي للامتناع عن الشراء كعقوبة للتجار.
وحققت حملات المقاطعة نتائج غير متوقعة للحكومة وصادمة للتجار، واضطر البائعون إلى خفض الأسعار بنسب تراوحت بين ستين إلى سبعين في المئة، في محاولة لخفض معدلات الخسائر اليومية، لكن المواطنين استمروا في التوقف عن الشراء للحصول على المزيد من خفض الأسعار.
وتحولت مواقع التواصل الاجتماعي، فيسبوك وإكس تحديدا، إلى منبر لرصد نتائج المقاطعة عبر بث صور ومقاطع فيديو لأسواق الأسماك وهي خالية من المشترين، ما اضطر الكثير من التجار لغلق المحال، وذهب آخرون للإعلان عن أسعار زهيدة.
وانتقلت المقاطعة إلى محافظات في مناطق مختلفة، منها السويس والإسماعيلية والإسكندرية والشرقية وبني سويف والدقهلية والغربية والبحيرة وأسيوط، ودشن ناشطون وشخصيات عامة حملات لحث المواطنين على مقاطعة الأسماك أيضا.
وأظهرت حملات المقاطعة أن غالبية المواطنين لا يعوّلون على الحكومة وأجهزتها الرقابية لضبط الأسواق والسيطرة على الغلاء وأنهم قرروا التكاتف وتوجيه ضربة قاسمة للتجار الجشعين، طالما أن الجهات الرسمية لا تمتلك حلولا ناجزة لملف الغلاء.
وأكد مستشار وزير التموين المصري الأسبق نادر نورالدين، وهو أيضا خبير في الأمن الغذائي، أن المقاطعة “رسالة شعبية صارمة للتجار والحكومة، بأن المواطنين فاض بهم الكأس ولن يقفوا مكتوفي الأيدي، فحرية الأسواق لا تعني التسيب والجشع والاستغلال”.
وقال نورالدين في تصريح لـ”العرب” إن مشكلة الحكومة في اهتمامها بمبدأ إتاحة السلعة أكثر من تركيزها على الثمن، وهذا يتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة أن يكون توافر السلعة موازيا لتوفيرها للناس بأسعار تناسب قدراتها.
وترى دوائر سياسية أن توحد المصريين رسالة شديدة اللهجة للحكومة، وعليها أن تستوعب مضامينها في المستقبل، فالشارع إذا قرر مصيره بنفسه والالتفاف حول هدف مشروع قد تجد الحكومة نفسها في مواجهة سياسية غير محسوبة. وتعتقد الدوائر أن توافق المواطنين على مواجهة الغلاء وكسر شوكة أباطرة السوق قد ينتقل إلى ملفات تمس أولويات الناس وتتعامل معها جهات رسمية بلا حسم، ما ينطوي على مخاطر عديدة، إذا تحول الأمر إلى توحد شعبي ضد الحكومة نفسها.
وعكس التلاحم بين سكان العديد من الأقاليم المصرية على حتمية الاستمرار في حملات المقاطعة أن إرادة الشعب أقوى من الحكومة، وإذا دافع الناس عن هدف مشروع سيكون من الصعب الوقوف أمامهم، وهي رسالة للحكومة قبل أباطرة السوق. ودشن مشاركون في المقاطعة دعوة للمواطنين لمطالبتهم بعدم التوقف عند إجبار التجار على خفض أسعار الأسماك والاستمرار في تطبيق نفس الأسلوب على سلع وأغذية مثل اللحوم والدواجن والبيض والألبان والأرز والزيوت والبقوليات، ويتم اختيار سلعة كل فترة لمقاطعتها. وقال سعيد الصباغ مؤسس حملة “خليه يعفّن” إن إقبال المواطنين على المقاطعة فاق التوقعات، وأجبر التجار على خفض الأسعار لمستويات وصلت إلى سبعين في المئة، لافتا إلى أن اختيار الأسماك لبداية الحملة جاء لكونها من السهل تعرضها للعطب.
وأوضح أنه سيتم تنفيذ حملات أخرى لمقاطعة أنواع مختلفة من البروتين طالما أن أسعارها أصبحت في مقدرة شريحة قليلة من المصريين، ولن يتوقف حشد المواطنين لعدم الشراء قبل أن تصبح أسعار السلع الأساسية مناسبة للجميع. وبدا واضحا أن سلاح المقاطعة أقوى من نبرة التهديد والوعيد التي وجهتها الحكومة لكبار التجار مؤخرا، وأظهرت نتائج الحراك الشعبي تناقض بعض وسائل الإعلام، حيث روجت لانخفاضات غير حقيقية في الأسعار لتبييض صورة الجهات المسؤولة عن ضبط الأسوق.
◙ سلاح المقاطعة بلا واضحا أنه أقوى من نبرة التهديد والوعيد التي وجهتها الحكومة لكبار التجار مؤخرا وأظهرت نتائج الحراك الشعبي تناقض بعض وسائل الإعلام
وأثار صمت مؤسسات معنية بإدارة ملف الأسعار وعدم إعلانها دعم حملات المقاطعة وإلزام التجار بهامش ربح معقول حالة من الريبة بعد أن روّج معارضون لوجود تحفظات سياسية على فكرة أن يتوحد الشارع بهذه الطريقة خلال فترة قصيرة. واستثمرت بعض المنابر الإعلامية المملوكة لجماعة الإخوان صمت الحكومة للإيحاء بأنها ترفض حملات المقاطعة، لكن جاء إعلان محافظ بورسعيد اللواء عادل الغضبان بأنه يدعم المواطنين في محافظته ورفض دخول سوق الأسماك حتى تنخفض أسعارها ليدحض ادعاءات الإخوان بشأن وجود غضب حكومي من الفكرة.
وأشار نادر نورالدين لـ”العرب” إلى وجود شعور عند شريحة واسعة من المواطنين بأن الحكومة تجامل التجار أو أنهم تغولوا عليها، كمتحكمين في قوت الناس بتوفير السلع، لكن العبرة أن تكون الوفرة مرتبطة بمقدرة الشعب على الشراء وليس بالوفرة. وتوقع نورالدين انتقال حملات المقاطعة إلى سلع أخرى، لأن الناس شعرت أن الرسالة وصلت إلى التجار والمتحكمين في السوق، لافتا إلى وجود حالة من التنافس بين سكان كل منطقة، حيث يحاولون إثبات قوة تأثيرهم وتوحدهم، وهذا في حد ذاته مهمّ ومطلوب لاستمرار حملات المقاطعة.
ويؤخذ على الحكومة أن لديها أجهزة رقابية على درجة عالية من الخبرة والصرامة ولم تستثمرها جيدا لضبط إيقاع السوق، مع أن عدم إطلاق يد هذه الأجهزة لضرب مراكز القوى في ملف الغلاء يهدد الأمن المجتمعي الذي تجاهد الدولة للحفاظ عليه.
ويرى أنصار النظام المصري أن قيام أجهزة الدولة بتشديد القبضة على التجار بات ضرورة، بدلا من أن يجد الشارع نفسه مضطرا للمقاطعة التي تبعث برسائل سلبية حول قوة أجهزة الدولة، وتظهر كأنها قليلة الحيلة في فرض إرادتها على التجار. وما لم تستوعب الحكومة الأضرار السياسية للمقاطعة، فإنها سوف تظل فاقدة للسيطرة على قفزات الأسعار، وحينها سيكون أيّ خطاب رسمي موجه منها إلى الشارع عن اقتراب تحسن الأوضاع والظروف المعيشية مشكوكا في مصداقيته.