حكاية أنامل ترى وتسمع وتتكلم وتلمس

حين نشاهد عملا تشكيليا ما، غالبا ما نركز على جوانبه الفنية من اللون والظلال والحركات وطرق تشكل مواده ورسالته الجمالية والفكرية، لكن لا أحد يرصد حكاية العمل، كيف نشأ مع الفنان وكيف تشكّل وأي سردية يحملها ويخفيها ضمنيا داخله، إذ لكل عمل فني حكاية خاصة، هي حكاية الفنان نفسه في طريقه إلى إنجاز عمله، وهذا ما يرصده بدقة الفنان والناقد التشكيلي المغربي شفيق الزكاري في كتابه الجديد.
أصدر الناقد والتشكيلي المغربي شفيق الزكاري كتابا بعنوان “سرديات تشكيلية”، والذي اعتبره إطلالة على حكايات أراد لها أن تتناول أساليب الفنانين التشكيليين المغاربة والأجانب من منطلق سردي، تكون فيه التقنية مجرد جسر للعبور إلى انشغالات هؤلاء الفنانين من وجهة نظرهم المرتبطة بالذاكرة التي دُمغت في أذهانهم وترسخت بفعل قوة الحدث، الذي يتمازج فيه ما هو جدي بما هو هزلي، بعيدا عن التساؤلات المرتبطة بالمرجعيات الفكرية والفنية.
يقول الزكاري لـ”العرب”، إن فكرة نشر هذا الكتاب جاءت من خلال ما راكمه من كتابات عن الفن التشكيلي منذ مدة، وما نشره في يومية “المساء”، في فترة سابقة عبر سلسلة حاول من خلالها أن يقف على تجارب تشكيلية غربية وعربية ومغربية على الخصوص، وبما أن النشر بالصحيفة لا يتعدى عمره يوما واحدا، قرر أن يصيغ هذه النصوص ويعيد كتابتها وترتيبها في كتاب موسوم بـ”سرديات تشكيلية”.
بين الأدب والفن

شفيق الزكاري: حاولت إبراز أهمية دور الفن في حياتنا اليومية، بالحفر في الموروث الثقافي المغربي، بتنوعه واختلافه
يقول التشكيلي المغربي “في ما يخص إبعاد عملي كتصنيف من بين التجارب التي ذكرتها، هو أنني لا يمكنني أن أكتب عن نفسي وعن تجربتي، محاولا أن أقف موقف الكاتب والناقد من خارج ذاتيتي، لأحقق جزءا من الموضوعية بالنظر إلى تجارب أخرى، لأنه من الصعب لأي فنان كاتب أو ناقد أن يتجرد من ذاتيته وأنانيته أثناء الكتابة، فحاولت الابتعاد قدر الممكن عن الكتابة عن تجربتي، حتى أضمن تلك النظرة المتوازنة في تناول التجارب التي أدرجتها في مؤلفي”.
وصدر الكتاب عن دار القلم العربي للنشر والتوزيع في طبعة راقية من الحجم المتوسط، تقع في 287 صفحة وتتضمن أعمالا فنية بالألوان، وجاء في تقديم الكتاب، أنه غالبا ما نتناول في أبحاثنا الجمالية القضايا المتعلقة بالعناصر المؤثثة للأيقونة الفنية، وغالبا ما نعمل على تفكيك مفردات العمل الفني للوصول إلى حقيقة نسبية غائبة، مرتبطة بتكوين ومرجعية الباحث أو الناقد، من زوايا متعددة، في محاولة للوقوف على مناهج علمية محددة (فلسفية، سيكولوجية، سيميائية..) في التعامل مع التحفة الفنية، لكن صعوبة تحديد هذه المناهج تحول دون احتضان الأحكام القطعية التي تمتلك الحقيقة المطلقة، بما أن الحقيقة مفهوم زئبقي متحول في الزمان والمكان.
لذلك كانت كل تلك الأحكام عن التوجهات والأساليب في إطار التجارب التشكيلية، أحكاما رهينة بمرجعية كل باحث، ولا يمكنها أن تكون إلا أسئلة افتراضية مؤسسة لفعل الحوار ومقاربة التحفة الفنية، وتقريبها كذلك لذهن المتلقي، ولهذا لم يكن هذا المؤلف، بالنسبة إلى صاحبه سوى رفيق للاستئناس بتجارب يحترمها، لما جاءت به من مضامين فنية، تدعو إلى التساؤل وتؤسس لمرحلة جديدة في المشهد التشكيلي، سواء على المستوى المغربي أو العربي أو العالمي.
وحول ماذا تشكل له تلك التجارب في عمله التشكيلي وإلى أي حد تأثر بها وبمضامين تجربتها وانعكاستها على المشهد التشكيلي بالمغرب خاصة؟ يقول الزكاري لـ”العرب”، إن “التجارب التي تحدثت عنها في كتابي، هي تجارب حديثة، أردت من خلالها التأكيد على ضرورة ضمان صيرورة البحث التشكيلي لفنانين من مختلف الأجيال، انطلاقا من رؤية ومرجعية خاصة قد تختلف في تحليلها عن آراء بعض النقاد”.

الكتاب يقدم أسئلة افتراضية مؤسسة لفعل الحوار للأعمال التشكيلية ومقاربة التحفة الفنية، وتقريبها إلى ذهن المتلقي
ويستدرك “لكن تبقى إضافة نوعية من وجهة نظر ذاتية، حاولت من خلالها أن أنفذ إلى أغوارها عبر محكيات تتعلق بفترة معينة ومحددة في عمل واحد مرتبط بحدث بصم ذاكرة الفنان، لكن بطريقة سردية أدبية تحقيقا لتلك العلاقة الضرورية التي يجب أن تنسج بين الأدب والفن، كمدخل لوصف العمل”.
ويضيف التشكيلي والناقد المغربي أنه “بعدها عملت على تحليل تجربة كل فنان برمتها على حدة، أي انطلقت من الموضوع لأنفذ إلى الشكل وما يختزنه من تقنيات تتعلق بالتركيبة الإجمالية للعمل الفني. فهو في الواقع لم أتأثر بأي تجربة من هذه التجارب، بل أعجبت بها، وبطريقة إنجازها، وما تركته من انطباع عند جل المهتمين والمتتبعين للحقل التشكيلي المغربي، وما أضافته من مميزات جمالية استطاعت أن تبرز مدى أهمية دور الفن في حياتنا اليومية، بالحفر في الموروث الثقافي المشهدي المغربي، بغنى تنوعه واختلافه على جميع المستويات”.
الاهتمام بالحدث
يعتبر صلاح بوسريف، الشاعر والكاتب المهتم بالفن التشكيلي، أن شفيق الزكاري، باعتباره فنانا وباحثا في التشكيل، هو من بين أبرز من كتبوا عن التجارب التشكيلية المغربية، لأنه كان قريبا من هذه التجارب، عرفها من خلال أعمالها، وكان على صلة بمحترفاتها.
ويضيف “ليس التشكيل تعبيرا باللفظ عن اللون والظل، والتعبيرات الرمزية التي تشكل نسيج العمل الفني، بل هو أولا إحساس بالمفارق والمختلف والمدهش في هذا العمل، وثانيا، ما يحققه هذا العمل من إضافة، في طبيعة الرؤية والتصور، وفي ما تعمل حواس الفنان على اختلاقه من عوالم غير مسبوقة، بقدر علاقتها بالطبيعة والأشياء، فهي طبيعة وشيء خاص، عالم آخر يتشكل في صلب عالم موجود وقائم الذات”.
ويلفت بوسريف في تصريح لـ”العرب”، أن الزكاري، مدرك لهذا بصورة جيدة، وحواسه دقيقة في التقاط المفارق والمدهش، بمفاهيم نابعة من العمل نفسه، قبل أن تكون لغة تنساب بموازاة العمل، تظهر فيها لغة الأدب، أكثر من لغة الفن وأدواته. في هذا العمل، نحن أمام حكاية تشكل، هي حكاية أنامل ترى وتسمع وتتكلم وتلمس، تقول ما لم ير، وما لم يكن ظاهرا للعين التي تسمع ولا تتحسس، أو تقيس نبض العمل بما فيها من ضوء وظلمة”.
ويقول الناقد المغربي، في تقديم كتابه، إنه عادة ما نلج عوالم العمل الفني من زاوية بصرية أولية، قبل النفاذ إلى عمق الموضوع المطروح، لكن في هذا الكتاب كان العكس هو الهدف، أي الاهتمام بالحدث كواجهة أو كمدخل لعوالم التجارب التشكيلية، ارتكازا على حس جدي، تارة وفكاهي تارة أخرى، مع احترام أهمية الأعمال بمضامينها المختلفة فكرا وإنجازا. كما أنه لم يكن تجميع هذه الأسماء الإبداعية في هذا الكتاب بغية الفرز أو التصنيف، بقدر ما كان الرهان حاضرا بقوة على مضامينها، وما تختزنه من حكايا مطمورة في خلفيات هذه الأعمال. حكايا نسغها المشترك هو الواقع المعيش، وإن اختلفت التقنيات باختلاف طرق معالجاتها للأسندة وما تحمله من مواد وأشكال وألوان وأبعاد. وهي سلسلة من الكتابات التي صدرت بيومية المساء، أردت استجماعها حتى تصبح مرجعا للمهتمين، بعدما أن كانت مرتبطة بفترة عابرة.
لحظة المخاض
بخصوص تقييمه للمشهد التشكيلي بالمغرب، يقول الزكاري، إنه يحتاج إلى وقت طويل للحديث عنه وتحليله، كما يحتاج إلى إعادة نظر في كتابته وتأريخه، لأنه لم يكتب بعد، وما كتب إلى حد الآن ليس إلا محاولات لفهم وإدراك مكونات الإنتاج التشكيلي المغربي من زوايا شخصية متعددة، بنفس تارة تتم فيها إسقاطات منهجية ومفاهيمية وتارة أخرى من وجهات نظر تختزن في طياتها أهدافا ذاتية تضمر غايات تميل إلى ما هو مادي منه إلى ما هو موضوعي.
ولفت الناقد المغربي أن التشكيل المغربي يعرف تنوعا هاما لتنوع موروثه الثقافي وتعدد لغاته وثراء جغرافيته، لدرجة أن هذا المنتوج الفني أصبح يتجاوز عدد النصوص التي كتبت عنه، بمعنى آخر، أنه لا يوجد توازن بين الإنتاج والتنظير له على مستوى الكم، مما يدعو للتفكير في أهمية تحقيق هذا التوازن لتأسيس قاعدة نظرية يمكن من خلالها الوقوف على أهمية الإنتاج التشكيلي وتقييمه والشروع بعد ذلك في فرزه وتصنيفه وتحديد هويته على شاكلة ما قام به الغرب في ما قبل.
أما في ما يخص الانتماء لما هو عالمي، لا ينبت إلا في تربة محلية أولا، حسب الزكاري، اعتمادا على عناصر الذاكرة والهوية المغربية بكل تنوعاتها الثقافية العربية منها والأمازيغية، وهو ما حصل مع عدد من أعمال الفنانين المغاربة الذين اتخذوا من إرهاصات العناصر الرمزية والدلالية في الثقافة البصرية المغربية قاعدة لاشتغالهم وبحثهم التشكيلي نظريا وتطبيقيا، كما هو الحال بالنسبة إلى الجيلالي الغرباوي وأحمد الشرقاوي وفريد بلكاهية ومحمد المليحي وغيرهم ممن تركوا بصمة واضحة في المشهد البصري والجمالي بالمغرب.
تجميع هذه الأسماء الإبداعية في هذا الكتاب لم يكن بغية الفرز أو التصنيف، بقدر ما كان رهانا على تنوع المضامين
والعمل في غلاف الكتاب، حسب صلاح بوسريف، هو من بين أحدث أعمال شفيق الزكاري التي ستكون، بعد هذا الكتاب، جزءا من سردياته، لما تنطوي عليه من عوالم عجائبية، تعري الواقع وتكشفه، ببصيرة الناقد والفنان والباحث الذي طالما فتح الطرق لغيره من النقاد والتشكيليين، بنوع من الحوار والتصادي الفني الجمالي، وها هو يعرج على الطريق، ليتعقب الظل الذي هو، في جوهره، الشمس نفسها، وهي ترتدي قبعة من حبر وأقمشة وأصباغ.
وقد ركز التشكيلي المغربي على الحكاية في مؤلفه، لكي يحدد ويسيّج الحديث عن الجانب السردي في العمل التشكيلي في علاقته بلحظة المخاض الراهني، وارتباطه بالعامل التاريخي والنفسي في حدود ما أملته اللحظة الإبداعية العابرة التي تمت ولادتها مع تأريخها، كأرخبيل منفصل عن مشروع المبدع في عموميته، مع الحفاظ على الخيط الرابط بين التحفة وسياقات إنجازها.

الحفر في الموروث الثقافي المشهدي المغربي (لوحة للفنان أحمد الشرقاوي)

ليس التشكيل تعبيرا باللون فقط (لوحة للفنان جيلالي الغرباوي)