حصاد 2013: ميزانيات الثقافة تذهب هدرا وحديث ذكوري في الثورات

الجزائر- أسئلة كثيرة تشغل بال المعنيين بالشأن الثقافي، والمتابعين له، بينما نحن نودع عاما ثقافيا عربيا مواكباً لعام آخر عاصف من أعوام “الربيع العربي”. فمهما تعدّدت مقاربات المتفكّرين بالمسألة الثقافية، ومهما نوّعوا فيها من زوايا نظرهم لتحديد وظائفها، فإن الثقافة، سواء أكانت شعبيّة– ونعني بها ثقافة التقاليد والفولكلور- أم نقية عالمة، تظلّ فضاء رمزيا منفتحا على مجالات المعيش البشري، وتمثّل جسر الإنسان للعبور من هجانة تصوّراته عن الكون إلى تصنيع جماليات عناصر هذا الكون.
قبل تقديم صورة واقعية عن المشكلات الكبرى التي لا تزال عالقة وتمثل عنوان الأزمة الخانقة في واقع الثقافة والفكر بالعالم العربي منذ سنوات طويلة لغاية عام 2013، وقبل توفير مسح أولي عن الاتجاهات الثقافية والفكرية البارزة الآن في بلداننا وكذا تناقضاتها، أرى أنه ينبغي أولا النظر ولو باختصار في الجانب الهيكلي والمؤسساتي لواقعنا الثقافي.
كما هو معتاد، ففي آخر كل سنة تصدر في جميع الدول العربية تقارير ذات طابع وطني يحصى فيها ما تم من إنجازات على صعيد البنيات المادية، ومن فعاليات ثقافية وفنية ذات الصلة بحقول الثقافة والفكر والفنون، بما في ذلك المنظومة التعليمية التي ينظر إليها كقاعدة أساسية لأية نهضة حقيقية ماديا وروحيا، ولكن لا أحد حاسب أو يحاسب الجهات المعنية على النتائج الضحلة التي أصبحت قاعدة ثابتة يعاد إنتاجها باستمرار في حياتنا من المحيط إلى الخليج.
تناقضات الفعل الثقافي
وبالفعل، فإن بعض الدول العربية قد خصصت للثقافة ميزانيات سنوية لا بأس بها منها الدولة الجزائرية. غير أن الكيفية العشوائية والغامضة التي صرفت بها هذه الأموال من طرف الوزارات المكلفة بالشأن الثقافي والفني لم تكن شفافة من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذه الأموال لم تضخ لفائدة تجسيد وتحقيق المشاريع الثقافية الكبرى على ضوء استراتيجية كفيلة بخلق المناخ الثقافي والفكري والفني وكذا شروط الاندفاع الحداثي الحيوي في المجتمعات العربية.
|
إن هذه المؤسسات والمراكز المذكورة، ومثلها قليل جدا في العالم العربي، تسد بعض الثغرات في الحياة الثقافية والفكرية العربية دون أدنى شك، ولكن ذلك غير كاف حيث ينبغي إضافة مؤسسات ومراكز أخرى ووضع خطط استراتيجية أكثر علمية وجذرية – على ضوء إدراك خطر انتشار الأمية الحرفية والفكرية والعلمية والقانونية والمهنية وغيرها من أصناف وأنماط الأميات الأخرى المتزامنة مع عمق التخلف الثقافي والمعرفي والعلمي في بلداننا، ليس لنشر الثقافة الحديثة فقط – بل من أجل صنعها وصنع الكفاءات التي تقوم بالنهضة الفكرية والعلمية والمعرفية المتطورة والأكثر رقيا وحداثة في مجتمعاتنا وجعل كل ذلك عيدا يوميا في حياتنا.
هنا لا بد من القول بأن المؤسسات الثقافية التابعة للجامعة العربية وفي صدارتها المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم التي أصيبت بالجمود والتقهقر وتحولت إلى مستودع للمسؤولين المحالين على التقاعد أو لأولئك الذين يراد التخلص منهم من أجهزة الدولة المركزية في هذه الدولة العربية أو تلك في حاجة ماسة إلى تجاوز واقعها هذا، ورسم معالم جديدة أكثر فعالية وإيجابية للفعل الثقافي والفكري، ودون تحقق هذا، فإن التاريخ سيحاسب المسؤولين عليها.
بخصوص واقع البنية المادية للثقافة ببلداننا فيلاحظ أنها رغم الجهود المبذولة في هذا المجال تتسم بالنقص لحد أنها لا تفي بالحاجة أبدا لسبب بسيط وهو أن هذه الهياكل غير كافية من حيث العدد وغير ملائمة من حيث التجهيزات والتوجه ومن حيث التأطير الذي لا يأخذ بعين الاعتبار الكفاءة والوازع الحداثي عند إسناد المسؤوليات التنفيذية حلى نحو خاص. في هذا الإطار، نرى عدة ثغرات في الهيكلة وتوزيعها عربيا حسب التخصص والحاجة من جهة ومن جهة أخرى فلا يوجد مشروع ثقافي وفكري عربي موحد مؤسس على الأهداف المشتركة وعلى التنوعات الثقافية وعناصر الهوية وقابل للتطبيق في الميدان.
إن الكتاب العربي محاصر ولا يوزع بسلاسة وبعيدا عن قيود الأنظمة العربية ثقيلة الوطأة، وأن واقع توزيع الكتاب العربي المزري ينسحب أيضا على كل الأشكال الثقافية الأخرى كالمسرح والمسلات التلفزيونية، والمنابر الثقافية والفكرية مثل المجلات والصحف ذات الطابع الثقافي والفني والفكري وغيرها. وهكذا نجد أمامنا قيود الدولة القُطرية الفولاذية الموغلة في الانعزالية تحطم أمال وطموحات مواطنينا المتعطشين والمتعطشات إلى تجسيد التوزيع الديمقراطي الحر لكافة أشكال الغذاء الثقافي على مستوى الجغرافية العربية كبداية ثم الانطلاق إلى آفاق العالم الرحبة.
شبح “الأميات”
على مستوى تجاوز التخلف الثقافي المركب بكل مصادره وتجلياته نرى أن الدول العربية لم تخط خطوات إلى الأمام مقارنة بما كان عليه الوضع في عام 2008 مثلا، وبهذا الخصوص يكشف تقرير مؤسسة الأيام للصحافة والنشر وذلك بناء عن الوقائع النموذجية الملموسة التي نقلها تقرير مؤسسة “الفكر العربي” الصادر في عام 2008 عن “تدهور الثقافة في الوطن العربي”.
قانون جائر
إنه لا يعقل إطلاقا القبول بقوانين غير عادلة مثل القانون الذي يمنح للمؤلف 10 بالمئة في حين تمنح 90 بالمئة للناشر والطابع معا علما أن المؤلف هو صاحب الإنجاز الذي بدونه لا يمكن أبدا أن يبرز إلى الوجود. إن قانون المؤلف في العالم العربي هو أكبر مسخ يحطم المعنويات ويجعل المؤلف سواء كان شاعرا أو فيلسوفا أو عالم اجتماع مجرد حشرة تداس بالنعال و تحقر تحقيراً لا نظير له في التاريخ.
|
أمام هذا الوضع الذي تغلب عليه السلبيات هناك أيضا ضعف هائل في مستوى الإنتاج السينمائي، والمسرحي، وفي صناعة الكتاب، وغيابا شبه كامل عن ساحة بناء النظريات والمفاهيم الفكرية والفلسفية والعلمية والفنية، واكتشاف الأساليب الجديدة في الإبداع الأدبي والفني الأمر الذي جعل ولا يزال يجعل إنتاجنا وكذا شكل تقديمه للناس دون مستوى المعايير الدولية المتعارف عليها وبذلك نبقى ندور في المواقع الخلفية في الساحة العالمية.
وفي الواقع فإن القضية الكبرى المطروحة الآن على واقعنا من المحيط إلى الخليج ليست متمثلة فقط في ضرورة إعادة النظر جذريا في البنيات المادية وفي القوانين وطرائق التعامل مع الثقافة وتسيرها بل إنها تتمثل أيضا في إعادة النظر راديكاليا في مفهوم الثقافة نفسها وعلاقاتها بالإنسان الذي نريد أن نبنيه وبالمجتمعات التي نأمل أن نؤسسها على أنقاض واقع الديكتاتورية بكل أطيافها وأطنابها وتشكيلاتها وتجلياتها في الدول العربية، حيث تسيطر الرأسمالية المتوحشة المستوردة والمتقنعة بأقنعة ثقافية شتى، فضلا عن ثقافة الطائفية والقبلية والعشائرية والشللية الانتهازية والذكورة الاستبدادية التي لا تزال تعوق عمليات بناء الديمقراطية في فضاء مجتمعاتنا.
اقرأ المزيد عن الحصاد الثقافي الحصاد الثقافي المغربي: العروي يخرج عن صمته الرواية العربية أنثوية وذكورية وانفتاح حذر على الشارع