جيل يحطّم الطوطم، ويسخر من التابو، ويرمي المعبد بالحجارة

من خلال خمسة فصول جدلية يتناول الباحث العماني بسام علي في كتابه الأخير بعنوان “فصام الأديان”، قضايا الإرهاب والتطرف الديني، والأخلاق بين التشريع الإلهي والإنساني، ويعقد دراسة حول شيزوفرينيا الأديان، والدوغمائية وثقافة الآحاد، مثيرا في ذلك أسئلته العميقة حول الإلحاد والمقدس. “العرب” كان لها معه هذا الحوار حول الكتاب وقضايا ثقافية أخرى.
يأتي كتاب “فصام الأديان” للباحث والكاتب العماني بسام علي كحلقة أولى سيكملها بكتاب آخر بعنوان “دجل الأديان”، والذي سيركز فيه بشكل أساسي على مفهوم الشيطان والجن (دراسة مثيولوجية – سيكولوجية)، وسيتحدث عن الدجل الديني والشعوذة والعلاج الروحاني، وحقيقة آثار النصوص المقدسة على المؤمن، كما سيفنّد الإعجاز العلمي في القرآن، وسيقدّم قراءة مختلفة، وحديثاً مطوّلاً عن الإعجاز الوجداني في النصوص المقدّسة.
وبالإضافة إلى عمل بسام البحثي يشتغل على كتابة روائية تحت عنوان “عزلة الرائي”، والتي يأمل أن يكون حظّها أوفر من “فِصام الأديان”، فالرواية -بحسب قوله- تحاكي واقع التيهِ والضياع والملح الذي يشعر به المؤمن. ويتوقع طباعة الكتابين (فصام الأديان وعزلة الرائي) في مطلع 2019 عن دار عرب.
المواجهة بالفكرة
حاول بسام علي في كتابه الفكري “فصام الأديان”، الصادر مؤخراً عن دار عرب في لندن، التزام منهج فينومينولوجيا الدين، وهو -بحسب رؤيته- المنهج الظاهراتي الوصفي الذي يعتمِدُ على وصف الظاهرة الدينية وسبر معناها من داخلها، بمعزلٍ تامٍ عن الأفكار والمواقف الشخصية المسبقة.
يقول لـ”العرب” “الباحث الفينومينولوجي لا يصدر في دراسته عن موقف معيّن أو تغليب نزعاتٍ نفسيّة؛ وإنّما هو أقرب إلى المشاهد المتفحّص للموقف أو الحالة أكثر من القاضي الذي يرى ضرورة إصدار رأي في ما يراه أكان حسناً أم سيئاً، لقد حاولت معالجة الموضوعات وترتيب الأفكار داخليّاً بطريقة تسهل مقارنة بعضها ببعض، مع الاعتماد في حالات نادرة على المنهج المقارن في ما يتعلّق بالتفاصيل”.
شكّل كتاب “فصام الدين” جدلاً، ابتداءً من العنوان، مروراً بفصوله الإشكالية، وانتهاءً بالنتائج المتعلّقة بكل فصل من فصوله. وعن هذا الجدل يقول الباحث “المؤمنون يدركون منذ زمن أن المكتبات العربية على وجه الخصوص مليئة بالنقد الذاتي ضد الموروثات والمسلّمات والثوابت التي شكّلت عقبة عصيّة ضد أي فرصة أمام النهوض، لهذا ارتأيت أن فكرة المساءلة الجريئة هي أكثر فاعليّة من مجرد التنظير، ولا أخفي حقيقة أن الجدل القائم لم يزعجني إطلاقاً طالما أن السلطات لم تمنع تداول الكتاب، فالفكرة يجب أن تواجه بالفكرة”.
ويرى علي أن “مفهوم الدين مفهوم شائك في منطلق التعريف، وعتبات التحليل، ودهاليز التفكيك والتخمين، فالمؤمنون عاجزون عن إيجاد تعريف محاط بالمنطقية، محقون بالأمل للإنسان في ماهية الدين والغرض منه، فإذا ما اتفقّنا على أن الدين لفتة إلهية في زمن معيّن لهدف محدّد؛ فإن ذلك يقتضي اليوم أن نتعامل مع الدين بروحه الإنسانية، وبتغليب الرمز الوجداني الصادر منه، أمّا لو كان للدين مفهوم شمولي ومنظومة متكاملة واجب إدخالها في شتّى مجالات الحياة كما هو حادث اليوم، فيمكننا أن نقول إن الفصام الحاد لدى المؤمن نتيجة متوقعة، لكن لا يمكن أن نجزم أن القراءات التأويلية المتعددة وراء ذلك الفصام أم رجالات الدين أم مضمون الدين نفسه”.
حاول الكثير من المفكرين الإسلاميين، لا سيما خلال العقد الأخير دفع تهمة السياسة عن الإسلام، وذلك بعد وضوح مشروع الإسلام السياسي الذي قبض عليه رجال الدين منذ 1979، في إيران، وفي السعودية، قبل موقفها الأخير من تيار الصحوة ورموزه. وفي سؤال عن رأيه في مدى قدرة الإسلام على امتلاك مشروع قادر على التماهي مع الدولة المدنية المؤسساتية الحديثة، يجيب علي “الإسلام ابتدأ بدولة مدنيّة، لا يمكننا أن نقول عكس ذلك، والهجرة كانت أولى مراحل التمدّن، والتي شكّلت اللبنة الأساسية في خلق بيئة تعدديّة ثقافية وسياسية ودينية لا مثيل لها في القرن السادس الميلادي، لكن الإسلام الدَعوي والخلافي انتهى، والوحي انقطع، نحن اليوم ليس لدينا أنبياء، بل قصص أنبياء، والإسلام -وقد يتفاجأ الكثيرون من إجابة صاحب كتاب فِصام الأديان- يمتلكُ مشروعاً متكاملاً ليكون دولة مدنية، وقد لا يكون مشروعاً يفضي إلى دولة يوتيوبيّة، لكنّها في الآخر ستخرجنا من واقعنا الديستوبي المرير، فالمشكلة تكمن في التصالح مع الذات والآخر المختلف، ثم إن التنظير هو أهم المشاكل”.
تحطيم الطوطم
في حديثنا عن قراءته لحرية الرأي والتعبير فيما يخص المشهد العربي بالعموم، لا سيما بعد العديد من الاستدعاءات التي طالت المثقفين العرب في دول عربية مختلفة على خلفية رأيهم السياسي أو الديني أو الاجتماعي، يوضح الباحث “العربي لا يفطم إلّا من ثدي المواجع، وأن تكون كاتباً عربياً فعلى الأغلب أنتَ تائهٌ وطريد. فالحريّات بكافة أشكالها في خطرٍ محدق، والتضييق يتزايد ويتأصّل ويتم تقنينه بالقوانين. هنالك توليفة قامت بها الأنظمة السياسية في بعض الدول العربية مع السلطة الدينية بهدف بقاء الأولى على السلطة من خلال استخدام الأخيرة كأداة لها. لا حرية تعبير في ظل أنظمة أمنية أو مخابراتية أو طائفية، ولا خيار سوى مرحلة إصلاح طويلة وخلق بيئة ديمقراطية ودساتير مدنية يبدي فيها المواطن رأيه، فالأنظمة الشمولية لن تخلق مناخاً مريحاً ليتم نقدها في ظلِّ تزييف مفاهيم الحريات والحقائق، والعالم العربي مليء بالمجندين من قبل السلطات الدينية والأمنية ليقوموا بهذا الغرض”.
ويؤكد بسام علي أن الباحث العربي يمتلك مساحة الحرية الكافية لنشر ما يصل إليه من خلال بحثه وتفكيكه وحفرياته المعرفية، ذلك بمعزل عن الرأي الرسمي الدوغمائي للمؤسسات الدينية السياسية.
يقول في هذا الشأن “يمتلك الباحث العربي مساحة كافية لنشر ما توصّل إليه، فما كان همساً بالأمس أصبح دندنة، وما يكتبه العربي ليس مجرد مرآة رؤيته للعالم وللواقع، بقسط كبير من الغضب والتمرّد، بل تعبير عن جيل بأسره، عن حالة غضب عامة، عن دهشة أو شهقة أو رغبة في التغيير. ولا يمكننا إنكار أن السلطة الدينية أصبحت عاجزة أمام موج الفكر المتقاذف من كل حدب وصوب، فمن يستطيع أن يوقف فكرة عابرة؟”.
ويرى علي أن النقد زلزال مركزه في برلين، لكنَّ رجاتهِ حول العالم. والمحاولات البيداغوجية والبراديغم الديني الدوغمائي إمّا أن يعدل عن خطابه البائس ومحاولات جرِّ المؤمنين إلى القرن السابع باستخدام أحدث وسائل الجر في القرن الواحد والعشرين أو سيبقى حبيساً في قلوب المؤمنين كنتيجة حتمية في ظل جيل يحطّم الطوطم، ويسخر من التابو، ويرمي المعبد بالحجارة. لم يعد الجيل الحالي متحفظاً أمام قيم الحداثة، وإن كان مسكوناً بالتقاليد في حالاتِ تردُّدِهِ، فهو يرغب في أن تكون نوافذه مفتوحة لأشعة الشمس”.