جوزيف حرب يرصد التفكك في الأشكال البشرية

"هنا والآن".. لوحات تتحدث عن مآسي اللبنانيين وهواجسهم.
الجمعة 2022/04/08
كائنات غاضبة ومتمردة

متأثرا بحياته في الولايات المتحدة وبجذوره الضاربة في عمق الوجع اللبناني، يسمح الفنان التشكيلي جوزيف حرب لنفسه بالحديث فنيا نيابة عن المتلقي، فيجسد هواجسه ومكامن الغضب الدفين داخله، وقد كان معرضه الأخير حالة من التفكك والتشظي تأتي مكملة للاختبارات السابقة التي عاشتها الأشكال الإنسانية في أعماله الفنية، ومحافظة على هويته الشرقية التي تمتزج بالتجريد.

تقدم صالة جانين ربيز في بيروت معرضا للفنان التشكيلي اللبناني جوزيف حرب تحت عنوان “هنا والآن” يستمر حتى السادس من شهر مايو القادم، ويضم مجموعة من اللوحات بأحجام مختلفة مشغولة بمادة الأكريليك إضافة إلى عدة منحوتات من الطين تجسد أشكالا بشرية مجزّأة حتى في اكتمال هيئتها، وأجزاء من هذه الأشكال هي مكتملة بحد ذاتها وبحد ما أراد من خلالها الفنان التعبير عنه.

ويقول الفنان حول معرضه هذا ما لم يختلف عن مجمل ما قاله عن رؤيته لفنه بشكل عام وذلك على اختلاف الوسائط الفنية التي استخدمها بداية باللوحات وبعض أعمال التجهيز وصولا إلى المنحوتات: “أشاهد الحياة كمسرح، أتساءل فيها عمّا هو حقيقي وما يمكن أن يكون خيالا. ثمة تعبيرات مباشرة ووحشية وأعمال تجريبية تصوّر الأجساد البشرية بعد حلول كارثة تهدد الجسد نفسه مثلما تحطم الروح، وتقدّم الواقع الخام لحالة البشر تحت الصدمة”.

أما هذه الصدمة التي يتحدث عنها الفنان فجاءت بعد انفجار الرابع من أغسطس الذي هزّ مرفأ بيروت، ذاك الانفجار الذي يلازم معظم الأعمال الفنية على اختلافها منذ أن حدث في سنة 2020 إلى يومنا هذا.

تجرّد من كل القيود
تجرّد من كل القيود

واللافت أن هذا الحدث المفجع بدا في أعمال جوزيف حرب الحالية على أنه تكريس لم يسبق أن أظهره في أعماله، وتأكيد بأن كل ما عرفه لبنان بشكل عام وبيروت بشكل خاص هو مسار واحد تحول إلى أسلوب عيش على هامش الحياة بمعناها المطلق.

ويذكر في هذا السياق أن الفنان مولود سنة 1964 أي أنه من جيل الحرب الأهلية التي سكنت أعماله الفنية كما لازمت العديد من النصوص الفنية لفنانين من جيله. وجلّ ما أبرز هذا الحضور للفجيعة الذي تبنى عبور الزمن مهمة إهمادها دون أن يزيلها، وذلك نراه في منحوتاته، منحوتات بدت فيها الأشكال غير المصقولة قد حافظت على بصمات أصابع الفنان لتبدو وكأنها خارجة من أتون موت بطيء تفنن في مساندة الفنان لتشكيل بلادة ملامح وجوه منحوتاته.

وتكمن المفارقة أن معظم أعمال الفنان السابقة يمكن تصنيفها في خانتين: الأولى هي تشييد وبناء لأشكال تحاكي الوجود بأساليب مبتكرة استخدم فيها تقنية الكولاج ليس فقط في جمع فعلي لقصاصات وإعادة تركيبها ضمن نص بصري واحد، ولكن أيضا كمنطق فكري يؤسس لتآلف بين العناصر المتضاربة التي شكلها جوزيف حرب حتى تلك التي يصعب تصور إمكانية تآلفها مع بعضها البعض.

أما الخانة الثانية فهي التي تضم لوحاته الواقعية – التجريدية، وربما من الأفضل تسميتها باللوحات الطبيعية - التجريدية، حيث بدا الفنان فيها وكأنه يرسم تسلّخ الجلد البشري عبر مرور الزمن أو فوران مياه باطنية - أسيدية في هدوء فضاء لوحات طغت عليها الألوان المتفجرة. وهي ألوان تخللها اللون الأبيض ليبدو وكأنه فسحة من أوكسيجين ضئيل يبدد الضغط من ناحية ومن ناحية أخرى يطيل من استمرار عملية التسلّخ أو الاحتراق.

واليوم في معرضه “هنا والآن” غابت عملية التسلخ، إلا من عمل واحد وهو منحوتة ممكن أن نعتبرها المنحوتة الأم التي تألفت من عدة أشخاص أو لنقل عدة هيئات بشرية بدت كأنها على عتبة خروجها من باب خلفه أتون خيال الفنان وذكرياته لتتبعثر في أرجاء المعرض أجسادا مكتملة، وأجزاء مكتملة (كما ذكرنا آنفا) تحكي سيرة شعب بأكمله.

كما غابت إضافة إلى حالة التسلخ، حالة الإنشاء المتصدية للانهيارات على أشكالها ليحلّ التفكك والتشظي كحالة نهائية بعد سلسلة من الاختبارات السابقة عاشتها الأشكال الإنسانية في أعماله الفنية.

الفنان بدا كأنه يرسم  تسلّخ الجلد البشري عبر  مرور الزمن أو فوران مياه باطنية - أسيدية  في هدوء
الفنان بدا كأنه يرسم تسلّخ الجلد البشري عبر مرور الزمن أو فوران مياه باطنية - أسيدية في هدوء

وظهر هذا الجديد في نص جوزيف حرب الفني في الرؤوس التي نحتها والتي بدت وكأنها تدحرجت للتو من أجسادها دون أن تثير جلبة كبيرة ودون أن تعكر بلادة أو نعاس ملامح تلك الوجوه التي قتلها الاعتياد على الفجائع.

وإلى جانب تلك المنحوتات تحضر منحوتات بالكاد تتحدث عن الحياة وقابلية العيش في ظروف مختلفة وذلك من خلال تجسيد نحتيّ يصوّر آلهة الحب فينوس.

إضافة إلى تلك الأعمال النحتية التي ربما هي الأهم في معرضه هذا أشار القيمون على المعرض إلى أن اللوحات التي جاورت المنحوتات تعكس “حالة أخرى من تصوير الجسد، تأملية أو ساكنة، وتضع اللوحات الأشكال بهيئة أجزاء، كعناصر في الزمان والمكان. ومن ناحية أخرى، يتم تلقي التمثيلات الإنسانية كأجزاء تشكل البناء الكلي، ويخضع هنا كلا الخيال والواقع للمُساءلة. يسمح حرب لنفسه بالتحدث نيابة عنا، والعيش في النكران، بل يخاطب الوحش الذي لا بد له أن يظهر في الظروف الحالية الصعبة. كما تتناول سلسلة لوحات أخرى هذه القوة الوحشية في تجسيد مختلف للثور”.

 يُذكر أن الفنان اختبر العديد من المواد والأساليب منها الرسم على الخشب ونحت مادة “الريزين” وحقق أعمالا فنية “بالميكست ميديا” جمع فيها الكثير من اختباراته التقنية. وتلقى شهادته الجامعية في الفنون الجميلة وانتقل بعدها إلى تدريس الرسم في جامعات: الروح القدس – الكسليك، جامعة البلمند والأكاديمية اللبنانية للفنون (ألبا)، قبل أن يهاجر إلى الولايات المتحدة ويحترف الفن والعرض الفني من هناك.

ومنذ 1987 شارك جوزيف حرب في معارض منفردة عديدة وجماعية في لبنان وفي فرنسا ودبي والولايات المتحدة وأبوظبي ولندن. ونذكر من معارضه الفردية “قيد البناء” و”أن تنظر إلى الوراء” و”سرديات” و”هيئات منشئة”.

14