جهل آثار اكتئاب ما بعد الولادة يعرّض أسرا للتفكك

أنشأت مجموعة من الطبيبات المتخصصات وحدات خاصة لمواجهة اكتئاب الأم بطرق مبتكرة ولتوعية شاملة للزوج وبقية أفراد الأسرة، بعد أن لاحظن أن الكثير من الأسر باتت مهددة بالتفكك بسبب عدم تفهم آثار اكتئاب الأم بعد الولادة في غياب التوعية اللازمة بهذه الحالة، التي تصيب العديد من الأمهات وجهل طرق علاج التغييرات الطارئة عليها، ما يجعل الأسرة تعيش حالة من الاضطراب الذي يزداد سوءا إلى درجة تنذر باحتمال وقوع الطلاق.
القاهرة - تتجاهل بعض الأسر أعراض التعب النفسي الذي تعيشه الأم بعد الوضع باعتباره من التغييرات الطبيعية التي تطرأ على سلوكها نتيجة للحمل والولادة، بالتالي لا تدرك الكثير من الأسر خطورة ذلك وما يحمله من عواقب مقلقة. ويصيب اكتئاب ما بعد الولادة من 10 بالمئة إلى 20 بالمئة من الأمهات بعد أسابيع قليلة إلى غاية عام من الولادة. وتختلف هذه النسبة بحسب عوامل المكان والثقافة وطريقة الولادة ودرجة تعليم الأم والأب.
دفع ذلك أمهات وطبيبات أمراض نسائية إلى إنشاء وحدة خاصة داخل مستشفى الأمل للولادة وأمراض الأطفال بالقاهرة تكون مسؤولة عن التوعية بالأمراض النفسية لفترات ما بعد الولادة. وتحقيق فهم أوسع لهذه الفترة الصعبة من خلال التأهيل النفسي والعضوي لها.
وقالت صاحبة الفكرة سامية مصطفى، وهي طبيبة نفسية وأم لطفلين، إن خطوة إنشاء وحدة توعية من أمراض ما بعد الولادة بدأت بصفحة على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، جمعت الآلاف من الأمهات حديثات العهد بعالم التربية والرعاية، واجتمعن في مشاركات حول مشاعر سلبية تجاه الطفل ورغبة في الهروب والموت بعد الولادة.
وأوضحت مصطفى لـ”العرب” أن أغلب السيدات يشعرن بأنهن وقعن في فخ كبير، فهن يعشن اكتئابا حادا وطبيعيا، لكن لا يمكن البوح به لأنه قد يوحي بقلة الإيمان وعدم التقدير لنعمة الرزق بطفل، نتيجة أفكار اجتماعية خاطئة ومتوارثة علاوة على صفات أخرى تتعلق بالإهمال والرعونة.
ولا تعرف أغلب الأمهات الكثير عن اكتئاب ما بعد الولادة، ولا يفهمن ما يحدث لهن من تغيرات نفسية وفسيولوجية. الأمر الذي جعل التوعية مسألة وقاية مبكرة وعلاجا سريعا في بعض المجتمعات العربية التي تعج بنسب عالية من تلك الظواهر، ولا تجد من يأخذ بيد الأم المكتئبة، بل هناك من يلقون المزيد من التهم والضغوط عليها عند التعبير عن مشاعرها السلبية.
وأضافت مصطفى أن الوحدة تعمل على تقديم ثلاثة أوجه من التوعية؛ الأول علمي ويقوم بشرح تفصيلي لشكل الاكتئاب بعد الولادة وأسبابه وكيفية مواجهته. والثاني فني ويتعلق بتعليم الأم بعض مهارات الرعاية لطفلها الرضيع مثل الرضاعة وتغيير الحفاظات وفترات النوم. والثالث هو الوجه الأسري ويقوم بالشرح والتوعية للأب باعتباره شريكا يحتاج إلى تفهم ما يصيب زوجته ومساعدتها على تجاوز تلك المشكلات سريعا.
وتتشابه الأمهات في المراحل الأولى، فيخرجن من المستشفى في حالة نشوة رغم آلام الجراحة القيصرية أو الولادة الطبيعية فإن مشاعر السعادة والهرمونات المسؤولة عن ذلك تكون بأعلى نسبة لها ثم تأتي المرحلة الثانية، والمسماة بالضبابية، وهي الفترة التي تظهر فيها المسؤوليات الطفيفة، لأن الأم في البداية تلقى مساعدة كبيرة من جانب أسرتها حتى تستقر أوضاعها.
يبدأ اكتئاب الولادة بالظهور في المرحلة الثالثة، عندما تصبح الأم وحيدة وتتبين حجم المسؤولية وتمارس أدوارها بمفردها. ويطلق العلماء على تلك الفترة مرحلة “تغيير الحفاظات” نظرا لأن تغيير ملابس الطفل تعد مثالا للوجوم الذي يصيب الأم.
وحكت فاتن عبدالفتاح، أم لطفل رضيع، عن مراحل تحول سعادتها بابنها الأول إلى مشاعر سلبية بالرغبة في الهروب، وأن أول ما سبب لها الكثير من الارتياب هو التغير الشامل والمفاجئ في روتين اليوم وزيادة ضغوط الحياة فجأة بصورة لم تكن تتخيلها.
وتابعت لـ”العرب” قائلة “أصبحت لدي مسؤوليات يومية لا أعرف كيف أنجزها، بداية من الرضاعة ومشكلاتها، ثم قلة النوم وفهم احتياجات ومزاج الطفل والتعامل مع المشاكل الصحية لصغير لا يعرف كيف يعبر عن نفسه”. وأكدت عبدالفتاح أنها شعرت مع كل الضغوط السريعة بأنها تتمنى التخلص من ذلك الكابوس الذي يطاردها، فهي لا تشعر بحب تجاه طفلها، وترى أنها لا تستحق أن تكون أما.
وتشعر غالبية الأمهات في البداية أن قرار الأمومة كان خطأ كبيرا، وتتشكك في حبها لطفلها، ولا تشعر بعاطفة تجاهه، وتخفي ذلك الشعور خوفا من نظرات الآخرين إليها. وتفكر بعضهن أحيانا في الهرب دون عودة، ويصل الأمر إلى الانتحار أو طلب الموت سريعا، وتأتي هذه الأفكار بشكل متكرر، ويرجح المختصون أن ذلك يرجع إلى عبء الأمومة والعجز عن أن تكون الفتاة أما جيدة.
يظن البعض أن كلمات التشجيع والثناء تجاه الأم تحدث إحساسا بالاطمئنان، وهو اعتقاد خاطئ، فكلمات التشجيع تنقلب إلى حزن وتوتر لدى الأم الجديدة.
وتشير سناء أحمد، وهي أم لطفلين، إلى أنها في كل مرة تلد فيها تشعر أنها أقدمت على خطوة سيئة، “الأم لا تشعر فقط بأنها أقدمت على مسؤولية لا تستطيع تحملها، لكنها تجد نفسها فقدت كل أنواع الرفاهية، من سفر واهتمام بمظهرها وتغير شكل جسدها”.
ولفتت لـ”العرب” إلى أن الولادة تجعل الوضع المادي على المحك وتزيد من صعوبة الحياة وتجعل البعض يضطر للتخلي عن الكثير من المتع، مثل السفر والتنزه والاستجمام، لتوفير الأموال لشراء احتياجات الطفل الجديد، ما يزيد فرص الإصابة باكتئاب حاد.
وترى أحمد أن تلك المشاعر لا تستمر كثيرا، ومع مرور الأيام والأسابيع يتحول عبء الطفل إلى سعادة وحب، “عندما تشاهد طفلك يضحك ويكبر ويلعب أمامك تزول المشاعر السلبية ويصبح التخلي عن الرفاهية وتقبل الصعوبات اليومية، مسألة هينة.”
ويقول بعض الخبراء في التربية إن علاج أعراض اكتئاب ما بعد الولادة مشكلة تصيب الأسرة وليس الأم وحدها؛ وعندما تفقد الأم اهتمامها بالطفل ينعكس ذلك على الأسرة ككل.
تقدم وحدة التوعية من اكتئاب ما بعد الولادة نصائح خاصة للأب باعتباره الأقدر على مساعدة الأم على تخطي أزمتها النفسية المعقدة. ويراهن المختصون على أن نجاح الأب في خلق بيئة صحية وسليمة لطمأنة الأم هو مفتاح اجتياز المشاعر السلبية.
وذكرت فريدة ماجد، وهي أم لطفل في عامه السادس، أنها بعد يومين من الولادة شعرت بتغير غير مفهوم في مزاجها، وكانت تبكي دون سبب، وتشعر بنفاد الصبر والتوتر والقلق، واستمرت هذه الحالة نحو أسبوع أو أكثر، ثم عادت مرة أخرى أكثر قوة بعد أن انتابها شعور باليأس وفقدت الشهية وعاشت اضطرابات في النوم وعدم القدرة على ممارسة الأنشطة اليومية.
وكشفت لـ”العرب” أن ما ساعدها على اجتياز هذه المحنة هو العودة إلى العمل بعد ستة أشهر من الولادة، وقبل ذلك شعرت بفقدان البوصلة والهدف، بعد أن أصبح طفلها يأخذ كل وقتها، ولعب زوجها دورا مهما بمساعدته لها على رعاية الطفل.