جنرالات النحات العراقي معتصم الكبيسي يتكاثرون إلى ما لا نهاية

يأخذ الغزو الأميركي للعراق جزءا كبيرا من ذاكرة الفنان العراقي معتصم الكبيسي، فتحاول مشاهده التحرر لتتجسّد في منحوتات ساخرة عن جنرالات الحروب والفساد، والتي ما تنفك تتوالد في أبشع صور ممكنة لهم وبصيغ جمالية مبتكرة.
تقدم صالة “أيام” الداعمة للفنون الشرق أوسطية المعاصرة بعيدا عن ترهات التجديد الخالي من المضمون، معرضا جامعا لعدة أعمال نحتية للفنان النحات العراقي معتصم الكبيسي تتناول نخبة من مجسمات لجنرالاته الشهيرة تحت عنوان “سخرية” وذلك بداية من الثاني عشر من يناير الجاري حتى الثاني والعشرين من مارس القادم.
وتجدر الإشارة إلى أنه في تلاعب بعنوان المعرض بصيغته الإنجليزية “تي ايروني” تم دمج كلمة الطغيان والسخرية في عنوان لا بل في كلمة واحدة.
معرض “سخرية” للنحات العراقي معتصم الكبيسي الجديد في صالة “أيام” هو معرضه الفردي الأول في الشارقة، ويضم مجموعة كبيرة من أعماله النحتية التي جسد فيها جنرالات الحروب والفساد.
منحوتات برونزية واظب على إخراجها من محترفه لسنوات متلاحقة إشهارا بفظاعتها من ناحية وتظهيرا لقدرته على “القبض” عليها بصيغة جمالية مُبتكرة، وهي غير مُتلبّسة بجرائمها المستمرة أي قبل أو بعد ارتكابها لشتى الجرائم. وفي ذلك إفصاح مدوّ بأن أمرها مفضوح للكل وتنضح ملامحها بالإجرام حتى وهي في عزّ انشغالها بأمور عادية كالاسترخاء على كرسي هزاز وآخر ثابت يشبه مقعدا ملكيّا.
أول مرة تعرفت فيها عن كثب على أعمال الفنان كانت خلال ثورة 17 تشرين (أكتوبر) اللبنانية، التي يحزنني أن أطلق اليوم عليها بـ”الثورة المزعومة” التي شاركت فيها بكل جوارحي وبكل ما أوتيت من وسائل.
يومها كان وقع منحوتات الجنرالات للرائع معتصم الكبيسي في نفسي كبيرا جدا. رأيتها آنذاك في واجهة صالة “أجيال” البيروتية من ضمن معرض تحت عنوان “آخر الجنرالات”.
بالنسبة إلي وإلى كل من رأى المعرض من لبنانيين كانت تلك الأعمال وما احتضنته الصالة الفنية من أعمال أخرى للفنان بمثابة إعلان عن نهاية وشيكة لزمن القادة المجرمين بكل أشكالهم وجنسياتهم. غير أن هؤلاء بعد مرور أكثر من 19 سنة على الاجتياح الأميركي للعراق ومرور أكثر من ثلاث سنوات على المعرض الذي حمل عنوان “آخر الجنرالات “، لا زالوا يفتكون بالشعوب طولا وعرضا وربما لأجل ذلك استمروا “فنيا” يتكاثرون في محترف معتصم الكبيسي بصيغ شبيهة وغير متشابهة ومعهم متاعهم وأشياؤهم وما سيّروه من آليات للتدمير.
البيان الذي قدمته صالة أجيال ليرافق معرض “آخر الجنرالات” يُمكن أن ينسحب على المعرض الحالي الذي يضم عددا أكبر من المنحوتات وبشكل أشمل يتيح للمُشاهد التعرف على الهيئات والانشغالات المختلفة لهؤلاء الطُغاة كأفراد، ومن ضمن مجموعات أخرجها الفنان إلى المُشاهد كمجسمات متداخلة تحرك مشاعر “الكراهية” تجاهها.
☚ معرض "سخرية" الجديد للنحات العراقي معتصم الكبيسي في صالة "أيام" هو معرضه الفردي الأول
ذكر البيان الصحافي آنذاك أن المعرض يضم “تماثيل برونزية صغيرة نسبيا لشخصيات في أوضاع كاريكاتيرية ممتلئة الجسم، ومشوهة، وخبيثة، وسخيفة منذ غزو العراق، حيث أصبح عمل الفنان، مثلما حياته الشخصية، يستند إلى مواجهة طغيان آلة القتل”.
وأضاف البيان “تبدو هذه الكائنات المشوهة مستمّدة من الواقع الذي يعيشه؛ حيث كان يقيم في بغداد لحظة دخول جيش الاحتلال، فبدأ مشروعه في تصوير الانحطاط لدى جنرالاته المسلّحين بأدوات الخراب والتدمير، فجاءت منحوتاته ضخمة الشكل ومنتفخة البطون والأوداج، ترتدي قبّعات في محاولات لإخفاء تشوهاتها، ولا تذكّر هيئاتها وأجسادها إلا بأشباح الموت”.
ما يهمنا من هذا المعرض ليس أنه “المعرض الفردي الأول للفنان في الشارقة”، بل لأنه أولا يؤكد على أن ما قاله عنها الفنان منذ عدة سنوات ليس فيه أية مبالغة كما اعتبر ذلك الكثيرون. حينها قال معتصم الكبيسي عن شخوصه تلك “قد تبدو كاريكاتيرية بعض الشيء غير أنها واقعية جدا وتظهر حقيقة هؤلاء الملتحفين بستراتهم العسكرية”.
اليوم نقول هم فعلا هكذا في تمام حقيقتهم. فتلك الأجساد التي رأيناها في المعرض البيروتي بدينة بشكل مبالغ فيه حتى الكاريكاتيرية نراها اليوم بشكل مختلف. هذه البدانة لسيت إلا انتفاخا. وهذه الأجساد ليست إلا أجيافا نتنة ولا نقول جثثا. وهذه الحياة الدابة فيها التي تمكنها من ارتكاب الفظاعات هي من النوع الشيطاني الذي يقتات من دماء الضحايا ولا يزال في فعله حتى الآن، ليس فقط في العراق، بل في لبنان أيضا ولا شك في دول أخرى.
أما السبب الثاني الذي يجعل معرض صالة “أيام” مهما هو أنه يضم منحوتات كثيرة مُنتقاة من مجمل ما قدمه معتصم الكبيسي من أعمال عن “جنرالاته” بشكل يتيح للمُشاهد أن يمعن النظر في ما تحمل مُجتمعة من معان.
ومن أهم المعاني اليوم تلك التي تجلت في استكشاف “لهوية” شخوصه والتي أراد الفنان أن يخفي ملامح وجوهها من تحت الأقنعة الواقية والقبعات العسكرية فأفشت عن حقيقتها الفظيعة والشاملة.
واليوم لا نتساءل “من هم هؤلاء؟” يكفي النظر إلى هامات الجنرالات المُصفّحة كالآلات حدّ الاتحاد بها. ويكفي النظر إلى التفاصيل الضئيلة البادية من الوجوه كالأنوف التي تبدو وكأنها تلقت ضربة من داخل الرأس وليس من خارجه، والذقون الهزيلة والمعكوفة وغير المنسجمة مع ضخامة الأجساد، وأنصاف العيون التي يحتار الناظر إليها إن كانت مُقعرة أو نافرة، أو إن كانت ترى فقط ولا تبصر كي يدرك أن ما جسّده الفنان هو “البشريّ الجديد”، إذا صحّ التعبير. فتلك الجنرالات تتوالد في كل بقاع الأرض وهي مُجتمعة أشبه بجيش من كائنات الذكاء الاصطناعي التي أقل ما يقال عنها أنها بلا أرواح، بكل ما تعني الكلمة من معان سامية.
منذ عدة سنوات تساءلت في نهاية المقال الذي كتبته عن معرض الفنان معتصم الكبيسي في صالة أجيال “يمكن أن تكون هذه المنحوتات التي يملك العديد منها وجوها مخيفة لجماجم بشرية، هي إعلان عن بداية نهاية الحياة البشرية”. اليوم أقول ربما هي هكذا فعلا. وها هي تتوالد أينما كانت ويدفع كبارها في العربيات الصغار من معدومي الأرواح كما يفعل أحد “جنرالات” الفنان في منحوتة من منحوتاته.