ثقافة إرساء حقوق البنات في الميراث معدومة لدى الجزائريين

تفيد إحصائيات صادرة عن القضاء الجزائري أن 70 في المئة من الخلافات العائلية تعود إلى النزاعات حول الميراث بسبب ارتباط انتقال الثروة بالأطماع والمصالح والأنانية، ما يعني أن آلية انتقال الثروة بين أفراد الأسرة في الجزائر تحكمها الأعراف لا القوانين. وتجيز هذه الأعراف للذكور حق الإرث والتملك بينما تستثني الإناث. وتحرص العائلة الجزائرية على تسوية مسائل الميراث بين أفرادها وفق ما تمليه الأعراف والتقاليد، وليس وفق ما يقتضيه القانون، ما يحرم النساء من الحصول على حقوقهن.
الجزائر - تبقى المراجعات الذاتية لبعض الأفراد والعائلات في الجزائر بشأن حق البنت في الميراث مبادرات معزولة لا تكفي لتأسيس ثقافة إرساء الحقوق وتجاوز عقدة حرمان المرأة من أحد أهم حقوقها، حيث مازالت الأعراف والتقاليد غير عادلة في آلية انتقال الثروة بين أفراد الأسرة الواحدة.
ورغم أن القوانين تكفل للبنت ذلك إلا أنها تبقى عديمة الجدوى لأن العادات تفضل تسوية تلك المسائل بعيدا عن أعين القانون، رغم أن هناك إحصائيات تشير إلى أن 70 في المئة من مشاكل الأسر الجزائرية سببها الميراث.
مازالت غالبية الأسر الجزائرية تتنكر لحق البنت في الميراث لأسباب مختلفة، لكنها تجمع على ضرورة الحفاظ على ممتلكات وثروات العائلة وحمايتها من الوافدين عبر المصاهرة، بينما يلبسها آخرون ثوبا دينيا بتفضيل الذكور على الإناث واعتبار أن حق البنت ينتهي في عائلتها بمجرد أن تنتقل إلى بيت الزوجية، وحتى إنْ لم توفق -حسب رأي تلك الفتاوى- في حياتها الزوجية فحقها في الميراث غير ثابت لأن التقاليد والأعراف تكرس هيمنة الذكور على الإناث.
لكن رغم حرص العائلة الجزائرية على تسوية مسائل الميراث بين أفرادها وفق ما تمليه الأعراف والتقاليد، إلا أن إحصائيات صادرة عن القضاء الجزائري بينت أن 70 في المئة من الخلافات العائلية تعود إلى النزاعات حول الميراث بسبب ارتباط انتقال الثروة بالأطماع والمصالح والأنانية.
وتتباين الروايات حول حق الميراث بالنسبة إلى المرأة في العديد من المناطق الجزائرية، غير أن الثابت أن قرار حرمانها في منطقة القبائل أقرته وثيقة ترجع إلى ثلاثة قرون تقريبًا، ارتبطت بواقعة تاريخية، ومنذ ذلك الوقت نزل عقاب جماعي على نسوة القبائل، ومازال متوارثًا حتى اليوم في بعض مناطق البلد.
70 في المئة من مشاكل الأسر الجزائرية سببها الميراث، ومازالت غالبيتها تتنكر لحق الأنثى فيه
وتذكر روايات تاريخية أن قصة إقصاء المرأة من الميراث في بعض المناطق الجزائرية تعود إلى وثيقة تمّ توقيعها سنة 1749 في أعالي جبال جرجرة وسميت بوثيقة “كوكو”، نسبة إلى مملكة كوكو الأمازيغية، وبموجبها تم حظر تحويل الأراضي إلى ملك آخرين أو أشخاص أجانب على اعتبار أن الأراضي الفلاحية هي رأس مال العائلة بالدرجة الأولى، وأهل المنطقة بالدرجة الثانية.
ويرى المؤرخ محمد أرزقي فراد أن المسألة مرتبطة بمختلف المناطق التي تكثر فيها الزوايا، وذلك بحكم الأعراف والتقاليد المتوارثة أبا عن جد منذ قرون متواترة، وأن الكثير من المناطق الجزائرية لجأت إلى عدم تزويج بناتها رجالًا من خارج العائلة، وهو ما يسيطر عليه منطق العروش (النظام القبلي) في عدة مناطق جزائرية، من قناعات مردها تلك الوثيقة التي ظهرت سنة 1749.
ويضيف المؤرخ أن حرمان المرأة من الميراث يرجع إلى حادثة نتج عنها إصدار فتوى دينية استمر توارثها عدةَ قرون؛ والقصة أبطالها بحارة من الجيش العثماني، تمّ حجزهم في الأندلس لمدة تجاوزت عشرين سنة، فتزوجت نساؤهم الجزائريات في فترة غيابهم، وتحولت أملاكهم إلى رجال آخرين، وعندما تمّ فكّ أسرهم ورجعوا إلى الجزائر وقعت حرب أهلية بسبب تلك الأملاك، فلجأ أهل المنطقة إلى تحرير هذه الفتوى حتى لا يذهب نصيب المرأة إلى زوجها الغريب وحفاظًا على وحدة الأسرة والأرض وعدم انتقالها إلى الأجانب
وحسب المؤرخ محمد أرزقي فراد فإن وثيقة “كوكو” حررت من طرف نبلاء وأعيان قرى المنطقة، في اجتماع بقرية جمعة الصهاريج في ولاية (محافظة) تيزي وزو، وأسفر الاجتماع عن جملة من القرارات من بينها حرمان المرأة من الميراث، وهو ما بقي متوارثا لدى بعض العائلات حتى اليوم.
ولئن كان الأمر على هذا النحو بخصوص وضع حق البنت في الميراث بمنطقة القبائل، فإن المناطق الأخرى لا تخلو من الظاهرة لأسباب أخرى ترتبط بالأعراف والتقاليد المعززة بفتاوى دينية غير قابلة للنقاش، حيث تسود قاعدة “الحبوس” التي تكرس هيمنة الذكور على الممتلكات والميراث، وتقصي الإناث بدعوى أن المرأة ستتحول إلى مالكة في بيت زوجها.
ورغم أن المصاهرة هي شكل من أشكال توسع العائلة، إلا أن زوج البنت يبقى دائما غريبا عن العائلة الأصلية، ولا يمكن له أن يصبح واحدا من أفرادها عبر الاستفادة من حق زوجته في الميراث، ولذلك يبقى انتقال الثروة في الغالب محصورا لدى الذكور، وفي حالات محدودة ينفتح على الجميع تحت قناعات الأسرة أو تطبيق القانون الذي حسمت تشريعاته في المسألة، لكن الكثير من المسائل المطروحة عليه في قضايا الأسرة تعود إلى خلافات الميراث.

محمد أرزقي فراد: حرمان المرأة من الميراث سببه فتوى استمر توارثها عدةَ قرون
وتذكر العديد من الشهادات أن أوانس وسيدات سرعان ما وجدن أنفسهن في مواجهة تعسف أشقائهن الذكور في الاعتراف بحقهن في الميراث. لكن رد الفعل يختلف من حالة إلى أخرى؛ فإن لجأ البعض منهن إلى القضاء لنيل الحقوق فإن البعض الآخر يضطر إلى التنازل عنها حفاظا على تماسك الأسرة وخشية القطيعة والعار وسط مجتمع مازال ينظر بعين “العيب” للبنت التي تقاضي شقيقها أو أشقاءها أو أقاربها.
وتذكر إحدى الضحايا التي فضلت عدم ذكر اسمها أنها فكرت كثيرا في رفع دعوى قضائية تطالب فيها بحقها ولكنها تنازلت لأن إخوتها حذروها بقطع صلتهم بها إذا لطخت اسم العائلة في المحاكم، وهو ما كلفها خسارة حقها مقابل ألا تخسر إخوتها واسم عائلتها.
وذكرت دراسة اجتماعية لشائعة جعفري أن “80 في المئة من الحالات تجسد تنازل النساء عن الميراث حفاظا على صلة الرحم، ورضوخاً لتهديدات الإخوة، وهذا ما تترتب عليه في ما بعد نزاعات عائلية حادة بسبب الخلافات حول التركة، والتي عادة ما تكون نهايتها المحاكم”.
وكشفت دراسة جزائرية حديثة أعدّها المرصد الجزائري للمرأة عن انتشار متزايد لظاهرة حرمان المرأة من الميراث في الكثير من مناطق الوطن، وبالتحديد في المناطق التي تضم أكبر عدد من المساجد والزوايا، والتي تتميز بطابعها الفلاحي، حيث تعرف قيمة الأراضي ارتفاعا وبُعدا تاريخيا يجعلها مقياسا للرفعة والثراء.وبيّنت الدراسة أن المرأة في هذه المناطق يُسمح لها في أحسن الأحوال بميراث الأموال والذهب، غير أنها تُمنع من ميراث الأراضي والعقار، وهذا بالرغم من تواجد عائلات تملك ثقافة دينية واسعة بحكم جوارها للمساجد والزوايا.
ولكن قيمة العقار والأراضي المرتفعة جعلت هذا الأخير محل أطماع الورثة الذكور الذين يتحايلون ويتفقون على حرمان أخواتهم من الميراث، بحجة أن الرجال هم من تعبوا على هذه الأراضي التي لا يُسمح بتقسيمها على “الأصهار” أي أزواج الأخوات ولو تطلب الأمر التزوير وحتى القتل، وفي بعض الأحيان تستعين هذه العائلات بأئمة وشيوخ لإقناع المرأة بأن تتنازل عن حقها في الميراث، بحجة الحفاظ على تماسك العائلة وصلة الأرحام. وتسجل محاكم الجنايات يوميا قضايا خطيرة تتعلق بالنزاعات العائلية بسبب الميراث، والتي تصل إلى حد القتل والتزوير وشجارات جماعية تستعمل فيها أخطر أنواع الأسلحة البيضاء.