تونس.. توظيف الجمعيات في السياسة يعرّي عجز الدولة عن احتوائه

تؤكد العديد من العوامل في تونس أن مراقبة التداخل بين العمل الجمعياتي والنشاط السياسي عملية معقدة. فرغم وجود نص قانوني واضح يجرّم توظيف الجمعيات بأي شكل من الأشكال في حملات المرشحين للانتخابات ونشاط أحزابهم، إلا أن آفاق تطبيق هذا القانون تبقى محدودة في ظل صعوبة إثبات هذه الصلات رغم كونها في البعض من الأحيان تكون مكشوفة للعيان. وتتخوف الأوساط السياسية والشعبية من هذه الممارسات باعتبار إمكانات تقويضها لجهود إرساء الديمقراطية التي تتطلع لها تونس.
مرت ثماني سنوات على أول انتخابات تونسية في الجمهورية الثانية وأربع سنوات على آخر انتخابات عامة نظمتها البلاد، لكن المشهد حاليا يتشابه كثيرا مع العامين 2011 و2014 حيث لعب العمل الجمعياتي دورا كبيرا في صعود نجم أحزاب ومرشحين للانتخابات بشقيها، الرئاسية والتشريعية، والتأثير في مواقف الناخبين والشخص أو القائمة التي سيمنحونها أصواتهم.
ومع اقتراب موعد الاقتراع للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها في تونس، المقرر في 15 سبتمبر الجاري، تبرز المؤشرات وإحصائيات سبر الآراء أن الانخراط في الأعمال الخيرية بالأساس أو حتى غيرها من النشاطات المصبوغة بطابع المجتمع المدني قد تكون بداية الطريق نحو قصر قرطاج أو مجلس نواب الشعب (البرلمان) والأمثلة على ذلك عديدة ومختلفة بحسب طبيعة النشاط المجتمعي.
لا تخيّم المخاوف من تحركات الناشطين في المجتمع المدني، التي تستهدف كسب قاعدة شعبية تتحول في ما بعد إلى خزان انتخابي ينهل منه المرشحون وأحزابهم، على الأوساط السياسية فقط بل تخيّم كذلك على الأوساط الشعبية، في ظل الدعاية لأعمال خيرية بتوظيف قناة تلفزيونية خاصة وبحضور مرشح للانتخابات الرئاسية في كل نشاط يهم هذه الجمعية، إلى جانب استفتاء التونسيين حول أبرز مشاغلهم والقضايا التي تهمهم وتطلعاتهم وتوظيف قاعدة بيانات كبيرة لأغراض سياسية ناهيك عن تجنيد جمعيات خيرية مقربة من أحزاب كبرى خدمة للحملات الانتخابية.
العديد من الأحزاب نددت بتوظيف العمل الجمعياتي لغايات انتخابية ورفضت الخلط بين العملين الجمعياتي والسياسي معتبرة أنه تحايل على الناخبين ومحاولات للتلاعب بخياراتهم ثم بأصواتهم.
لكن من بين الأحزاب التي أعربت عن رفضها لتوظيف الجمعيات لتحقيق نتائج انتخابية حتى من قبل انطلاق حملات المرشحين، أحزاب هي نفسها متهمة بتنظيم نشاطات خيرية وتقديم مساعدات اجتماعية واستغلال جمعيات مقربة منها للتأثير على المواطنين لاسيما في الأحياء الشعبية للعاصمة والمدن الكبرى أو في المناطق الريفية والمحافظات الداخلية (البعيدة عن العاصمة).
في المشهد أيضا، أحد المرشحين وضع على ملصقات حملته الدعائية صورة له مع كبار في السن في مناطق ريفية أثناء زياراته لتلك المناطق في توظيف واضح لنشاطات جمعيته الخيرية التي تأسست خلال السنوات الأخيرة.
وكشفت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الشهر الماضي، أن 34 حزبا فقط من مجموع 221 حزبا في تونس و1877 جمعية من بين ما يقارب 18 ألف جمعية صرحت بمكاسبها ومصالحها لدى الهيئة وفق ما يقتضيه القانون.
وتبرز مؤشرات الانتهاكات الواضحة للعيان وكذلك وجود أسباب عديدة تجعل مخاوف الأوساط السياسية والشعبية والمدنية مشروعة وحقيقية في خضم هذا الوضع المزدحم بالتوظيفات غير القانونية والدعم المقنّع للسياسيين طيلة مسار السباق الانتخابي وخاصة في الأمتار الأخيرة منه.
لكن أجهزة الدولة إدارية كانت أو رقابية إلى جانب الهيئات المختصة وعلى رأسها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تبدو عاجزة عن وقف نزيف العمل الجمعياتي في الحملات الانتخابية وكبح جماح تدخل البعض من مكونات المجتمع المدني في تلميع صورة بعض السياسيين والترويج لنشاطهم بهدف استمالة الناخبين.
وقال فاروق بوعسكر، عضو الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، إن الهيئة لم تتلق أي إشعار بوجود توظيف للجمعيات أو العمل الجمعياتي خلال متابعتها للتجاوزات المرتكبة أثناء الحملة الانتخابية في هذه الفترة.
وأكد بوعسكر، لـ”العرب”، “في المطلق، القانون الانتخابي يمنع قيام جمعية بتمويل أو دعم حزب سياسي أو مرشح للانتخابات وتعتبره تمويلا مقنّعا للحملة الانتخابي”.
وتابع “إذا تم رصد ممارسات من هذا النوع تقوم الهيئة بتقدير قيمة هذا التمويل غير القانوني واتخاذ الإجراءات اللازمة”.
ويمنع الفصل الرابع من المرسوم 88 الصادر في العام 2011 الجمعيات من “أن تجمع الأموال لدعم أحزاب سياسية أو مرشحين مستقلين إلى انتخابات وطنية أو جهوية أو محلية أو أن تقدم لهم الدعم المادي”.
ووفق نفس المصدر “لا يشمل هذا التحجير حق الجمعية في التعبير عن آرائها السياسية ومواقفها من قضايا الشأن العام”.
أما الفصل الثامن من نفس المرسوم فينص على أنه “لا يمكن أن يكون مؤسّسو ومسيّرو الجمعيّة ممن يضطلعون بمسؤوليات ضمن الهياكل المركزيّة المسيّرة للأحزاب السياسية”.
ويرى الكثير من التونسيين من أوساط مختلفة أن المرسوم المتعلق بتنظيم الجمعيات يتضمن العديد من النقائص وأنه فضفاض في البعض من أحكامه ومفاهيمه، ما يجعله غير واضح ويمهد لتأويلات عديدة بشأنه، تسفر أساسا عن انتهاكات للقانون وتشرع للتجاوزات وهو ما يعتبر أحد التحديات التي تواجهها الديمقراطية الناشئة في تونس.
ويعد المرسوم 88 الإطار القانوني الوحيد المتوفر في تونس في ما يتعلق بتأسيس الجمعيات وتنظيم طريقة عملها، لكن مصالح العلاقات مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان برئاسة الحكومة تعكف حاليا على إعداد مشروع قانون جديد للجمعيات تطمح من خلاله لتجاوز نقائص القانون القديم.
وتدرك الحكومة أن حصر انتهاك القانون بتوظيف الجمعيات في العمل السياسي بشكل عام أمر ليس هيّنا ويكشف حجم الهوّة بين الجانب النظري وإمكانية تطبيقه.
ووصف مراد محجوبي، المدير العام للعلاقة مع المجتمع المدني بمصالح رئاسة الحكومة، كشف توظيف الجمعيات في الحملات الانتخابية بـ”العملية المعقدة”.
وأقر، في تصريح لـ”العرب”، أنه رغم وجود قوانين تضبط الحدود بين العملين الجمعياتي والسياسي إلا أن “عملية المراقبة (مدى تطبيق القانون) صعبة” مشدّدا على الحاجة إلى منظومة رقمية وعصرية لجمع بيانات الجمعيات والأحزاب وهو ما من شأنه أن يسهل عملية المراقبة.
وأكد أن الحل يتلخص في أن تكون كل الأطراف، الحكومة والهيئة العليا للانتخابات والمجتمع المدني، منخرطة وملتزمة بكشف الخروقات.
وشدد محجوبي على أهمية دور المجتمع المدني بشكل خاص في مراقبة توظيف العمل الجمعياتي في الحملات السياسية، على اعتبار معرفته بالمناطق التي تنشط فيها هذه الجمعيات وبالفاعلين في المشهد المحلي بشقّيه السياسي والجمعياتي.
لكن الإشكال المطروح في هذا المستوى يلخصه سؤال واحد: إذا كانت الحكومة بكل إمكانيات الدولة التي تتوفر لديها وتتحكم فيها عاجزة عن وضع حد لاستغلال العمل الجمعياتي كواحد من أدوات العمل السياسي والدعاية الانتخابية وعاجزة أيضا عن إثبات الصلات القانونية بين مسيّري جمعيات وسياسيين بارزين، فكيف يمكن أن تكون الحلول بيد مكونات المجتمع المدني في ظل مواردها المحدودة؟
تراقب العديد من الجمعيات سير الحملات الانتخابية وظروف إجراء الاقتراع، لكن طبيعة نشاطها وتعقيدات المشهد الانتخابي تجعل أعمالها تنحصر في مراقبة البعض من المحاور وإهمال أخرى.
قالت ليلى الشرايبي، رئيسة الجمعية التونسية لنزاهة وديمقراطية الانتخابات (عتيد)، إن ملاحظي المنظمة المنتشرين في مناطق عديدة في البلاد لم يرصدوا أي توظيف للجمعيات خلال حملات المرشحين للانتخابات الرئاسية.
وشددت الشرايبي على أن منظمتها لم تركز على نشاط الجمعيات وارتباطه بالسياسيين في هذه الفترة. وكانت جمعية “عتيد” المهتمة بمتابعة العملية الانتخابية قد أعلنت الأسبوع الماضي عن اعتماد 250 ملاحظا تم توزيعهم على مناطق مختلفة من البلاد.
والأربعاء، تم الإعلان عن تشكيل ائتلاف بين 27 جمعية، لمراقبة الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وقال أشرف العوادي، رئيس منظمة “أنا يقظ”، إن “برنامج الشراكة المعلن عنه يضم 27 منظمة موزعة على كافة الدوائر الانتخابية” داخل البلاد. وأكد العوادي “لن ندّخر أي جهود لضمان نزاهة الاستحقاق الانتخابي القادم”.
ويضم برنامج مراقبة الانتخابات، ملاحظة الحملة الانتخابية الرئاسية والتشريعية، ومتابعة مصادر تمويل الحملات الانتخابية في الاقتراع البرلماني فقط. كما يتعلق البرنامج بمتابعة التجاوزات والخروقات المرتكبة في مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك مراقبة سير العملية الانتخابية يوم الاقتراع.