السفر في زمن كورونا يتحدّى قيود الوباء

إجراءات الحجر تعصف بخطط السياح في إسبانيا لكنها لم تفسد متعة السفر بكل تفاصيلها في زمن كورونا.
الأحد 2020/04/12
كورونا يفرض قيوده على العالم

لا نكشف سرا عندما نقول إن السفر في زمن كورونا مختلف عن السفر في الأيام العادية، فقرارات الإغلاق قد تفشل برامج الرحلات وتبدأ في إحباط السياح لكنها حتما لا يمكن أن تفسد متعة السفر التي تبقى دائما تجربة فريدة بكل تفاصيلها المميزة.

تونس – قد يبدو قرار السفر مع بدء تواتر الأخبار حول انتشار فايروس كورونا وتحديدا في الأيام الأولى لشهر مارس قرارا مجنونا، لكن كيف نقاوم فكرة السفر عندما تتملكنا.

انطلقت الطائرة من مطار تونس قرطاج الدولي لتصل مدريد بعد حوالي ساعتين تخللتها محطة توقف واحدة في مطار برشلونة. عند النزول من الطائرة وحتى مكتب شرطة الحدود لا شيء يدل على إجراءات استثنائية متعلقة بتفشي كورونا لا قياس لدرجات حرارة المسافرين ولا إجراءات سلامة مشددة ولا غيرها.

بمجرد ختم جواز السفر، يكفي تنزيل تطبيق إلكتروني على الهاتف الذكي لتفهم حركة النقل في المدينة والوسائل التي تقلك للوجهة التي تريد الذهاب إليها.

خطوتنا التالية كانت اقتناء بطاقة تنقل من الجهاز الآلي الموجود في مدخل محطة المترو صالحة للاستخدام في مدريد طيلة المدة التي يحددها السائح. وصلنا إلى الفندق الموجود في منطقة سول قرابة الساعة الثامنة مساء. بعد وضع الحقائب في الغرفة وفترة راحة قصيرة أخذنا حماسنا في جولة ليلية في قلب مدريد، ساحة “بويرتا ديل سول” التي تعني بالعربية بوابة الشمس.

إرث ثقافي

بوابة الشمس هي مركز مدريد، إذ توجد فيها النقطة صفر أو كما تقول اللافتة “كيلومتر صفر”، منها تتفرع عشرة شوارع توصل إلى مختلف مناطق العاصمة.

مبنى ريال كاسا دي كوريوس الذي يقع في الواجهة الجنوبية لساحة بويرتا ديل سول بني في القرن الثامن عشر، وكان في السابق مكتبا للبريد كما يشير اسمه، لكنه حاليا لا يقوم بهذه الوظيفة بل يستقبل مكتب رئيس حكومة مدريد.

وساحة بويرتا ديل سول لا تكاد تخلو من حركة المارة في الليل كما في النهار بفضل جمالها ووجود عدة نصب تذكارية شهيرة من بينها تمثال الدب وشجرة التوت ونافورات تاريخية وتمثال الملك كارلوس الثالث.

في شارع كلاوديو مايانو توجد مجموعة أكشاك متلاصقة مبنية من الخشب على الطراز القديم مخصصة لبيع الكتب أغلبها بسبب قرار الحجر

لا شيء هنا يدل على استثناءات مرتبطة بانتشار فايروس، رغم أننا في الأسبوع الثاني من شهر مارس، ما عدا عدد قليل من المارة يرتدون الكمامات الواقية. في صباح اليوم التالي، لا يمكن تفويت فرصة احتساء فنجان قهوة في أحد مقاهي مدريد والاستمتاع بأشعة الشمس الدافئة، ومن ثمة الانطلاق في جولة على الأقدام بين أنهج وشوارع العاصمة للاستمتاع بثراء المعمار الإسباني القديم.

أحد الطرق المتفرعة من ساحة بويرتا ديل سول يوصل إلى منطقة “غران فيا” جنة عشاق التسوق إذ يضم الشارع الرئيسي في هذه المنطقة أهم

الماركات العالمية المناسبة لمختلف الأذواق والميزانيات. إدراك خطورة الوضع الناجم عن انتشار فايروس كورونا في العالم تجلى في بعض المحلات التي يحرص العاملون فيها على تنظيف وتعقيم أسطحها وواجهاتها وأبوابها، وكل ما يمكن أن تطاله يد الزبائن داخل المحل أو في محيطه.

واختارت بعض المتاجر وضع علامات تطلب فيها من الزبائن تجنب لمس البضاعة.

أحد أهم نقاط الجذب في مدريد حديقة “ريتيرو” العامة، وهي  وجهتنا لقضاء قرابة نصف يوم، “باركي ديلريتيرو” التي شيدت في القرن التاسع عشر في الحقيقة أكثر من مجرد حديقة عامة، فإلى جانب أكثر من 125 هكتارا تحتوي على أكثر من 15 ألف شجرة، توجد  تماثيل ونصب تاريخية وفنية عالية، من بينها النصب التذكاري للملك ألفونسو الثاني عشر، وفوانتي ديل أنجل كايدو (نافورة الملاك الساقط) وقصور عريقة ممثلة في قصر فيلاسكيز وقصر الزجاج (بالاسيو دي كريستال) وقصرريتيرو.

بخروجنا من حديقة ريتيرو توجهنا إلى متحف الأنثروبولوجيا القريب وأمامه فوجئنا بأبوابه مغلقة لندرك حينها قرار الغلق الجزئي الذي بدأ سريانه ويشمل مواقع الجذب الثقافية ودور العرض السينمائية والمسارح وملاعب كرة القدم. وهنا تملكتنا أولى حالات الإحباط، إذ حرمنا من زيارة متحف برادو الوطني ومركز الملكة صوفيا للفن، بالإضافة إلى متابعة مباراة لفريق ريال مدريد بملعب سانتياغو بيرنابو ولكنّ أبوابه مغلقة.

معالم هجرها السياح
معالم هجرها السياح

أخذتنا خطانا لاكتشاف معالم مدريد إلى شارع كلاوديو مايانو أين توجد مجموعة أكشاك متلاصقة مبنية من الخشب على الطراز القديم مخصصة لبيع الكتب، أغلبها مقفل في ما يبدو استجابة لقرار الإغلاق الجزئي.

معظم الكتب المعروضة في هذه الأكشاك في مجالات مختلفة باللغة الإسبانية، أما الكتب باللغات الأخرى كالفرنسية أو الإنجليزية فهي شبة غائبة، وإن وجدت فحضورها نادر.

الرجوع من حديقة ريتيرو والذهاب إليها يمر وجوبا عبر بلازا دي سيبيليس (ساحة سيبيليس) والتي يوجد بها قصر الاتصالات التاريخي، وهو الآن مقر بلدية مدريد، تحفة معمارية فريدة من نوعها يطل على تحفة فنية لا تقل عنه تميزا، هي نافورة سيبيليس التي يتوسطها نصب لرمز الخصوبة تم تشييدها في عام 1780.

طريق العودة يمر بنا عبر بنك إسبانيا وهو البنك المركزي، وهو أيضا أحد أهم الأماكن التي بنيت حولها أحداث أحد مواسم المسلسل الإسباني الشهير “لاكاسا دي بابال”. في المساء، جذبتنا أجواء حانة مكتظة بالمشجعين لمتابعة مباراة فريق أتلتيكو مدريد وليفيربول، الأجواء الحماسية الصاخبة توجت بفوز الفريق المحلي لتبدأ أجواء احتفالية أشعلها أداء فريق غنائي محلي حلق بالساهرين في سماء الرقص على إيقاعات أشهر أغاني موسيقى الروك العالمية.

في اليوم الموالي، كان جدول الرحلة يتضمن زيارة مدينة توليدو (طليطلة بالعربية) التي تبعد حوالي نصف ساعة بالقطار على مدريد.

عند خروجنا من محطة قطار توليدو استقبلتنا مرشدة سياحية لتعرض علينا جولة عبر الحافلة السياحية المكونة من طابقين، فوافقنا دون تردد.

توليدو مدينة السلام

تجوب الحافلة أطراف مدينة توليدو لتبرز جمالها وموقعها الجغرافي المتميز لاسيما وجودها في أعلى تلة يحيط بها نهر تاجة، ثم تدخل المدينة مع سرد معلومات عن أبرز معالم المدينة وتاريخها بأهم اللغات المتحدثة عالميا ومن بينها العربية. أولى المتاجر التي تبيع تذكارات من توليدو يعرض لزبائنه مجموعة فريدة من السكاكين والسيوف والخناجر بشكلها التاريخي ونقوشها العريقة.

هذا المتجر يقع في الشارع المجاور للكازار (القصر) الذي بناه الأندلسيون محصنا في أعلى مكان من توليدو ثم أصبح مقرا للجيوش الإسبانية.

في توليدو، تسافر بك جدرانها وأزقتها إلى غياهب التاريخ فتتلمس آثار الحضارات التي مرت من هنا من الرومانية إلى القوطية إلى الإسلامية ثم عودتها إلى الإسبان، وكيف سعت كل منها لإدخال تعديلات على المعمار لطمس بصمات السابقين لها والمختلفين عنها.

كاتدرائية توليدو هذه التحفة المعمارية العريقة، من أكبر الشهود على تعاقب الحضارات المختلفة على المدينة.

السفر مغامرة تستحق خوض غمارها
رحلة لاكتشاف معالم اسبانيا

بعد جولة في توليدو بالاستعانة بخرائط غوغل وخارطة تبين أبرز معالم توليدو حصلنا عليها من المرشدة السياحية، أدركنا أن توليدو تستحق عن جدارة لقب مدينة السلام الذي حصلت عليه منذ القدم، وذلك لوجود الكاتدرائيات والمساجد والمعبد اليهودي دليلا على تعايش الديانات الثلاث في المدينة في فترات زمنية ماضية. بعد توليدو، الوجهة هي إشبيليا في رحلة بالقطار تدوم لحوالي ثلاث ساعات انطلاقا من محطة أتوتشا التي تتميز بتصميم معماري جميل ولكن أيضا بوجود حديقة للنباتات الاستوائية داخلها.

بوصولنا إلى إشبيليا، وجدنا المدينة هادئة ومحلاتها مفتوحة على عكس مدريد التي بدأت تجارتها تتأثر بقرار الإغلاق. استقبلنا صاحب المنزل وهو مرتد لكمامات وقفازات واقية، ترك لنا مفتاح الشقة وما يشبه عقد إيجار وغادر. في هذه اللحظة تلقينا كما كبيرا من الأخبار السيئة تبدأ بقرار الحكومة التونسية فرض إغلاق جزئي للحدود الجوية وتخفيض عدد الرحلات الجوية بما في ذلك إلغاء رحلة عودتنا إلى تونس.

 أمام القرارات الحكومية الجديدة، اضطررنا لتقليص مدة إقامتنا في إشبيليا وتغيير جدول رحلتنا الذي كان ضمنه زيارة لمدينتي قرطبة وغرناطة.

في إشبيليا بعد يوم فقط من وصولنا استجابت المدينة لقرار الإغلاق الصادر عن الحكومة المركزية.

وأمام حديقة باركي دي ماريا لويزا (حديقة ماريا لويزا) مغلقة الأبواب مجموعة من السياح والسكان المحليين، ربما لم تكن قد وصلتهم أخبار الإغلاق حينها، أو لم يكونوا يتوقعون أن القرار يشمل أيضا الحدائق العامة.

التنزه على ضفاف نهر نهر غوادالكيفير أو “الواد الكبير” خامس أطول أنهار إسبانيا، والذي كان قبل يوم فقط تسير فيه السفن السياحية، كان الخيار البديل في ظل بدء إغلاق المدينة التي غادرناها في اليوم التالي نحو مدريد.

في القطار بدأت الإجراءات المشددة ترى بوضوح، فإلى جانب مراعاة توزيع المسافرين على القطار بما يضمن سلامتهم، صعد أحد العاملين في شركة السكك الحديدية وطلب من الركاب الجلوس في مقاعد متباعدة.في مدريد كل شيء مغلق باستثناء محلات بيع المواد الغذائية والأساسية والصيدليات، فيما تسير الحافلات والمترو بنسق أقل مقارنة بالأيام العادية.

قضينا أسبوعا في فندق بمنطقة غران فيا قبل العودة في أول رحلة إجلاء متوفرة إلى تونس. طيلة هذه الفترة، مدريد المعروفة بصخبها وازدحامها الدائم، كانت تبدو أشبه بمدينة أشباح زادتها أرقام الموت المرعبة كآبة وحزنا، تقطعها أحيانا أصوات التصفيق وقرع الأواني من شرفات المنازل تحية للفرق الطبية والصحية المشاركة في المعركة ضد فايروس كورونا.

إجراءات كورونا

السفر مغامرة تستحق أن تعاش
السفر مغامرة تستحق أن تعاش

في رحلتنا للبحث عن صيدلية تتوفر فيها الكمامات الواقية اعترضنا شرطي ليعلمنا بأنه يمنع سير شخصين على مسافة متقاربة في الشارع.

استغلينا الفرصة لنسأله عن الإجراءات مع اقتراب تاريخ انتهاء تأشيرتنا السياحة، فأجاب بمنتهى اللطف أن الأمر لا يضعنا في أي مشكلة لأن الوضع استثنائي مستعينا بزميله الذي يتقن الإنكليزية لتفسير الأمر لنا.

في مطار أدولفو سواريز باراخاس الدولي، الحركة قليلة والمكان الذي يعد رابع أكبر مطارات أوروبا بدا شبه مقفر. على لوح الإعلانات حوالي ست رحلات في ذلك اليوم، كل حوالي ربع ساعة يأتي صوت من مضخمات الصوت المنتشرة في كل مكان من المطار لتذكر المسافرين بضرورة الانتباه لحقائبهم والابتعاد على الأقل مسافة متر على الآخرين، وهو إجراء تم احترامه من الجميع إلى أن يأخذ كل منهم مكانه في الطائرة. أما في مطار تونس قرطاج، فقد كان المشهد مختلفا، المطار معقم بالكامل، الجدران والأرضية وربما تم تعقيم السقف أيضا.

الفرق الصحية والأمنية في انتظارنا بملابس بيضاء واقية وأقنعة وقفازات، في مشهد حازم يكشف أن حالة الاستنفار على أشدها في تونس. في ممر محدد بأشرطة خاصة سرنا حتى بوابة الخروج من المطار، في الأثناء قياس درجات حرارتنا ثلاث مرات بأجهزة وكاميرات حرارية خاصة وتعقيم تام للثياب والأحذية والحقائب اليدوية وجواز السفر. ثم تكرار عملية تعقيم ثيابنا مرتين أخريين.

خارج المطار، أربع حافلات تنتظر لتقلنا إلى الحجر الصحي الإجباري، مجموع المسافرين القادمين من مدريد كانوا في حدود الستين شخصا تم توزيعنا على الحافلات الأربع احتراما لإجراءات السلامة.

السائقون كانوا يرتدون لباسا واقيا والمقاعد الستة الأولى تم منع الوصول إليها بأشرطة لاصقة. ولا أحد كان يعلم إلى أين سنذهب، فقط نعلم أن الحجر سيكون في نابل البعيدة عن العاصمة تونس حوالي 60 كيلومترا.

هكذا كانت رحلتنا إلى إسبانيا في زمن فرض فايروس كورونا قيوده على العالم. نجح الوباء اللعين في إفشال خطط وبرامج لكنه لم ينجح في زرع شيء من إحساس الندم على قرار السفر في شهر مارس 2020 لأنه رغم كل شيء تبقى مغامرة تستحق أن تعاش لنلمس عن قرب كيف جعلت هذه الجائحة سكان العالم يتشاركون العزل الذاتي ويتقاسمون ما يخلف فايروس كورونا من موت ووجع.

16