هنا الحجر الإجباري.. عالقون بين جدران الغضب والأمل

بجرّة قلم حكومي تجد نفسك مشمولا بإجراء الحجر الصحي الإجباري خوفا من انتشار العدوى، لست مصابا بفايروس كورونا ولا تظهر عليك الأعراض، ذنبك الوحيد هو سفرك في الفترة الأخيرة وتحديدا إلى إسبانيا البلد الذي يشهد أعدادا مرعبة من الإصابات بكوفيد-19 والموت يحاصر شعبه ليكون ثاني بلد موبوء في أوروبا والرابع عالميا.
تونس – بين جدران غرفة فندق نعيش تفاصيل سابع أيام الحجر الصحي. بين الساعة الثامنة والنصف والتاسعة والنصف صباحا موعد فطور الصباح، من هنا يبدأ يومنا عندما نسمع الطرقات المعتادة على الباب ودون أن نسأل عن هوية الطارق أو ماذا يريد وقبل أن نفتح الباب نحن نعلم أنه أحد الشباب المتطوعين لخدمتنا جلب لنا الوجبة المعتادة لكل شخص: نصف رغيف فرنسي (باغات)، وهو الرغيف الشعبي في تونس، وعلبتان صغيرتا الحجم من الزبدة والمربى وعلبة زبادي.
أجلت الحكومة التونسية 8 آلاف تونسي في حين ما يزال 1400 آخرين عالقين خارج البلاد في مناطق ودول مختلفة من العالم، وتتواصل جهود المسؤولين من أجل إعادتهم إلى بلدهم وفق ما أكد رئيس الحكومة إلياس الفخاخ خلال جلسة برلمانية انعقدت الخميس الماضي.
ردود فعل غاضبة
ليس جميع الذين تم إجلاؤهم في ظل هذه الظروف الاستثنائية شملهم قرار العزل الإجباري بل هم جزء فقط منه، وهو قرار بدأ تطبيقه منذ منتصف الأسبوع الماضي، وقد رأت فيه الجهات الرسمية المختصة الحل المثالي بعد تسجيل تصاعد لافت لعدم الانضباط بالعزل الذاتي الذي تم إقراره مع دخول إجراءات محاربة انتشار فايروس كورونا في تونس.
وفيما يرى قسم كبير من التونسيين الحجر الإجباري القرار الأمثل لوقف انتشار الفايروس المستجد يعارضه بعض من الذين خضعوا له.
في اليوم الأول للحجر الصحي الإجباري قال ظافر (32 عاما) “أحس أني أعاقب على ذنب لم أرتكبه. أنا أدفع فاتورة استهتار آخرين لم يلتزموا بالعزل الذاتي. هذا غير مقبول بالنسبة لي. هذا قرار غير حكيم نحن لسنا أطفالا أو أشخاصا في حاجة للوصاية أنا شخص ناضج وواع وأستطيع أن اعزل نفسي في منزلي لمدة 14 يوما”.
ويتابع “عائلتي جهزت لي كل الضروريات للاعتكاف في المنزل لأسبوعين أنا وزوجتي”.
العودة إلى المنزل ليست من بين الخيارات المتوفرة حاليا وهو قرار يصدر بإذن من وكيل الجمهورية (ممثل النيابة العامة) وعليه فإن أي انتهاك للحجر الإجباري يعرّض صاحبه للعقوبة قانونية تختلف بين خطية مالية والسجن.
وفق تصريح للناطق باسم وزارة الداخلية خالد الحيوني، أدلى به لإحدى الإذاعات المحلية الأسبوع الماضي، احتفظت السلطات بنحو 77 شخصا وأصدرت 12 بطاقة إيداع بالسجن و63 قرار وضع قيد الإقامة الجبرية بسبب عدم الامتثال للحجر الصحي، وهذه الأرقام مرجحة للارتفاع مع توجه الحكومة لتشديد العقوبات المرتبطة بحالة الطوارئ التي أملاها انتشار مرض كوفيد-19.
لا يعتبر ظافر أن هذه الإجراءات معقولة بل يراها ضربا من المبالغة مقارنا ما يعيشه حاليا بما عاشه في إسبانيا إبان فرض حظر التجول الشامل، فيقول “في إسبانيا الجميع يحترمون الإجراءات التي اتخذتها الحكومة، ويلتزمون بإجراءات الصحة والسلامة، فالزبائن في المساحات التجارية يلتزمون بالمحافظة على مسافة متر بين بعضهم البعض، وحتى المتشردين يلتزمون بهذه الإجراءات”.
ويضيف “لم نسمع بوجود إجراءات حجر إجباري والعقوبات تم تطبيقها فقط على من ينتهك حظر التجول ليلا، وحتى الحافلات والمترو جميعها حافظت على نسق سيرها العادي حتى وإن كان هناك شخص واحد يرغب في التنقل”.
سألت أحد أعضاء فريق التطوع، المشرف على خدمتنا طيلة فترة الحجر الإجباري، أن يطلب من المسؤول عنهم أن يتواصل معي لأسجل شهادته من أجل كتابة مقال عن تجربة الحجر الإجباري لجريدة “العرب”، وهو ما حدث بعد نصف ساعة أمام باب غرفتي إذ أنه لا يمكنني مغادرتها.
فايز رياحي نائب رئيس جمعية الصداقة والعمل الاجتماعي، وهو المشرف على فرق المتطوعين المتكوّن من 4 شبان يؤمّنون حاجيات الأشخاص الموجودين في الحجر الصحي الإجباري، وهو الفريق الذي تعزز بثلاثة أعضاء من منظمة الهلال الأحمر فرع نابل في ثالث أيام الحجر.
يوضح فايز “نحن كنّا مشاركين في مبادرات تطوعية لتعقيم شوارع مدينة نابل ثم قررنا معاضدة جهود الدولة، وتأمين ظروف الحجر الصحي الإجباري الذي يخضع له تونسيون قادمون من إسبانيا في أحد فنادق نابل”.
في البداية كان فايز غاضبا جدا من الوضع، إذ لم يكن يتوفر في الغرف أبسط الأساسيات كالغطاء المناسب وغيره من المفروشات والظروف الصحية المناسبة، وهو ما جعل البعض يدخلون في نوبات من الغضب.
بدوره عمر الشريف مدير الفندق وعند وصول مجموعة الحجر الإجباري كان الجهة التي أفرغ فيها الجميع غضبه احتجاجا على الحالة السيئة للغرف. حاول عمر مرارا وتكرارا التأكيد على أنه تفاجأ بالوضع واستقبل المجموعة دون أن يتسنّى له الوقت الكافي للاستعداد لاسيما وأن الفندق كان مغلقا للصيانة.
يقول عمر، لـ”العرب”، إن “اللجنة التي جاءت لتعاين الوضع أقرّت أن الفندق في وضع يمكنه من استقبال مجموعة الحجر الاجباري”، ولم يفته أن يؤكد للمسؤولين أن الفندق باعتبار وضعه الحالي خال من المعدّات والأدوات اللازمة للعيش، كما لا يوجد به موظفون للقيام بمهام التنظيف وإعداد الطعام وغيرها من المهام لتُؤمن راحة المقيمين، لكنه في المقابل تلقّى التطمينات اللازمة بأن ليس عليه أن يقلق من هذه الناحية.
يقرّ عمر بأن وصول مجموعة الحجر كان بسرعة ولم يتسنّ لهم الوقت للاستعداد كما يجب فتم تأجير بعض المعدّات الضرورية، لكن ذلك لم يكن كافيا، إذ كانت هناك نقائص كثيرة وهو ما أثار حفيظة الأشخاص الذين طبّق عليهم إجراء الحجر الإجباري، ويقول “أنا أتفهّم حالة الغضب حينها كان لهم كل الحق في ذلك بالنظر إلى الحالة التي وجدوا عليها الغرف”.
من جانبه، يؤكد فايز “تفهمنا هذا الغضب وسعينا إلى التهدئة بإنجاز اللازم وتأمين الضروريات”.
تحسن بطيء

ببطء تسير الأوضاع نحو التحسن في الحجر الإجباري، في اليوم الثاني تم تزويد كل غرفة بقارورة كلور وصابون من الحجم الكبير، وعرفنا بعد ذلك من مدير الفندق أن وزارة الصحة هي من وفّرت هذه المستلزمات، وهي أيضا التي وفرت كذلك في اليوم الثالث أغطية إضافية.
وبداية من اليوم الثالث أيضا، يرن يوميا وفي حدود الساعة العاشرة صباحا الهاتف الأرضي الموجود في الغرفة لتكون على الجهة الأخرى من الخط ممثلة عن وزارة الصحة بنابل، والتي قدّمت نفسها باسم الدكتورة شيراز، لمتابعة وضعنا الصحي إذ نجيب على أسئلة من قبيل ما إذا كانت درجة حرارة أجسامنا قد تجاوزت المعدل الطبيعي أو ما إذا كانت قد ظهرت على أحدنا أعراض أو مثلا إن كان أحدنا يعاني من أيّ توعك مهما كان مصدره أو أيّ مشكلة صحية أخرى.
قياس الحرارة موعد يومي على فترتين الأولى صباحية والثانية مسائية، وتتم بشكل فردي وبجهاز تقليدي تم توصيله إلى الغرفة في أول أيام الحجر، جهاز تقليدي لقياس درجة حرارة الجسم على أنه إذا ما تجاوزت حرارة أحدنا المعدل الطبيعي يعلم السلطات الصحية على الفور. كان محمد الموظف بأحد الفنادق في جزر الكناري (56 عاما)، وأحد المشمولين بالحجر الصحي الإجباري، قد أعرب عن تفاجئه لدى وصوله إلى نابل إذ كان يعتقد أن أفراد الفرق الصحية سيأخذون عيّنات من دم مجموعة المسافرين الواصلين من مدريد وسيحللونها، وأن الحجر الصحي الإجباري سيستمر إلى أن تظهر نتيجة تلك التحاليل للتأكد من الإصابة بفايروس كورونا من عدمه، لكنه “صدم” عندما اكتشف أن الفرق الصحية اكتفت بقياس درجة الحرارة لدى نزول المجموعة من الطائرة وداخل المطار وأمام الفندق الذي سيأويهم لمدة 14 يوما.
ويتساءل محمد “لا أفهم ماذا يعني الحجر الصحي الإجباري وما أهميته في هذه الحالة. هل سيكتفون بانتظار ظهور أعراض الإصابة بالفايروس على أحدنا؟ هذا أمر لا يبدو لي منطقيا”.
وصلتنا أدوات التنظيف اللازمة ودفعنا ثمنها، لأنها غير متوفرة لا في الفندق ولا ضمن الأغراض التي وفّرها المتطوعون بحسب ما قالوه. أنهيت تنظيف الغرفة والحمام وهي عملية من مسؤوليتنا على اعتبار أن لا أحد غيرنا يدخل غرفنا كما لا يمكننا مغادرتها احتراما للقانون.
لكن الوضع لم يسر جيدا مع الجميع إذ تقول رحاب المهندسة في مجال الكيمياء وباحثة دكتوراه (30 عاما) “طلبت مكنسة منذ اليوم الأول لأتمكن من تنظيف الغرفة لكنها لم تصلني ولا يمكن أن أدفع ثمن الأغراض لأنه لا يوجد معي عملة محلية” فعند الوصول لمطار تونس قرطاج لم تتح السلطات للمسافرين القادمين من مدريد فرصة صرف العملة الصعبة إذ صعدنا مباشرة إلى الحافلات التي قادتنا إلى الفندق في نابل.
تؤكد رحاب، في محادثة على فيسبوك معي، على احترامها للحجر الصحي الإجباري “لا أتواصل مع أي من جيراني في الحجر لأني لا أعلم ربما يكون أحدهم مصابا ولم تظهر عليه الأعراض بعد”. وتوضح “أتواصل فقط مع عائلتي يوميا”.
في اليوم الرابع أصبحت تصلنا أقداح قهوة في كؤوس ورقية ذات الاستعمال الواحد في الصباح بعد لحظات من تناول الفطور وفي فترة ما بعد الظهيرة. كلها مساهمات
متطوعين من المقاهي والمطاعم التي توفّر لنا وجبات الفطور والعشاء وهي أيضا تصلنا في أطباق بلاستيكية ذات الاستعمال الواحد. وجبات مقبولة وصحية متكونة من سلطة وطبق رئيسي وبرتقال.
قبل أن يواصل الحديث، ترتسم على ملامح فايز خطوط ابتسامه عريضة ويقول بحس فكاهي “أحد متابعي صفحتنا على فيسبوك علّق على إحدى الصور التي نشرناها قائلا: ما هي الوثائق المطلوبة للحجر الإجباري” في محاولة منه للتأكيد على أن كل شي متوفر هنا خاصة القهوة في ظل غلق كل المقاهي في المنطقة.
سايرته بابتسامة مماثلة مستذكرة واقعا أعيشه ووضعا عاينته في صور وفيديوهات انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام في الأيام الأخيرة تفضح الظروف السيئة والفوضى في مقرّات أخرى للحجر الصحي الإجباري في تونس، وعدم انضباط المعنيين بالأمر بشروطه وتعليمات السلطات الأمنية والصحية. والحق يقال لا مجال للمقارنة بين الوضع هنا وما ظهر من مشاهد فوضى في مقرّات أخرى للحجر الإجباري.
جهود متضافرة

واصل عمر كلامه بالحديث عن كيفية تحسن ظروف الإقامة شيئا فشيئا “وهذا تمّ بفضل مجهود مكوّنات من المجتمع المدني وفنادق أخرى بنابل، وأيضا بتدخلات ومجهود المعتمد (أعلى مسؤول محلي) هؤلاء قاموا بمجهودات كبيرة في سبيل سد كل النواقص التي كنا نعاني منها”.
توقف قليلا على الكلام ليتابع شاكرا مجهود وزارة السياحة التي وفرت خدمة “الواي في” بالغرف كي يتمكّن المقيمون في الحجر الإجباري من البقاء على تواصل دائم بالعالم الخارجي وليتمكنوا من إيجاد مصادر تسلية وترفيه. كما أكد أن المسؤولين من وزارة السياحة يتصلون يوميا بالفندق ليطمئنوا على المقيمين في الحجر الصحي الإجباري، وتتابع قدرة الفندق والمتطوعين على تأمين اللازم من أغراض وتهيئة الظروف الملائمة.
يشير عمر إلى أنه جعل مخزن المؤونة تحت تصرف المتطوعين من أجل تلبية حاجيات المقيمين في الحجر الصحي الإجباري خلال هذه الفترة. يؤكد فايز على ذلك عندما شكر أصحاب الفندق وإدارته قائلا “لم يوفروا أي دعم لمساعدتنا في تسهيل مهمتنا إذ وضعوا تحت تصرفنا كميات المياه المعدنية والسكر المتوفرة هنا وغيرها من الأغراض”. غياب التنسيق نقطة يلتقي عندها الجميع واعتبروها سبب كل الفوضى التي حدثت منذ البداية وخلّفت حالة غضب وهلع.
يعود ظافر قليلا بذاكرته إلى فترة وجوده في إسبانيا ليعرج على إلغاء رحلته على الخطوط التونسية دون إعلام بكيفية تغيير موعد الرحلة، وهو ما كلّفه الحجز من جديد على رحلة أخرى على شركة “طيران أوروبا” ثم بعد ذلك يصدر بيان صحافي عن وزارة النقل يعلن فيه أن آخر رحلة إجلاء ستكون الجمعة 20 مارس ما يعني ضمنيا أن رحلة في 22 مارس قد ألغيت. وزاد من هلعه عدم توفر المعلومة عند أي جهة ليصدر تصريح عن كل من وزير الخارجية ومدير ديوان الطيران المدني كل منهم يعطي موعدا مختلفا لآخر رحلات الإجلاء. ويعلق ظافر “هذه دوامة من الفوضى بسبب غياب التنسيق”.
الحكومة التونسية أجلت 8 آلاف تونسي في حين لا يزال 1400 آخرون عالقين في مناطق ودول في العالم وتتواصل جهود إعادتهم
أما محمد فيلفت الانتباه، من جهته، إلى تفصيل آخر يدل على غياب التنسيق بين الجهات المعنية بالحجر الإجباري إذ يقول “عندما وصلنا أمام الفندق في نابل عند الساعة الخامسة صباحا تقريبا لم يسمح لنا بالنزول من الحافلات، بل بقينا ننتظر طويلا الفرق الصحية حتى تصل لقياس حرارتنا وبعد ذلك ليتمكن مدير الفندق من إعداد قائمة بأسمائنا وتوزيع الغرف علينا. ألم يكفهم وقت الطريق أكثر من ساعة ونصف للاستعداد لاستقبالنا. كيف يتركونا ننتظر ونحن القادمون من سفر ووصلنا إلى تونس عند الساعة الواحد والنصف فجرا”.
عمر وفايز يوجهان اللوم للسلطات الرسمية التي لم تنسق معهما بشكل مسبق ليتمكنا من الاستعداد وتجهيز الغرف والحاجيات الأساسية لاستقبال مجموعة الحجر الإجباري وتعقيم الفندق قبل وصولها على غرار عملية التعقيم الشديد داخل مطار تونس قرطاج.
هدأ غضب ظافر مقارنة بأيام الحجر الأولى لكنه ما يزال يتجرع طعم المرارة عندما يتحدث عن كيفية عمل الأجهزة الرسمية فيقول “ما نزال بعيدين جدا عن الالتزام وتعلّم كيفية تسيير الأوضاع بأحسن شكل. الأمر لا يتطلب سحرا أو معجزة فقط يستوجب شيئا من التنسيق بين كل الأطراف معززا بالانضباط”.