تونس تفتح ملف الأملاك المصادرة المؤجل منذ سقوط نظام بن علي

ظلّ ملف الأملاك المصادرة في تونس مفتوحا منذ سنوات، مع تمسّك الرئيس قيس سعيّد بالحسم فيه ومحاسبة المتجاوزين، في إطار جهود الدولة لمحاربة ممارسات الفساد المستشري في البلاد بعد 2011، وهو ما لم تجرؤ الحكومات السابقة على الخوض فيه بجدية.
تونس - أثار الرئيس التونسي قيس سعيّد مجدّدا، ملف الأملاك المصادرة في البلاد، معتبرا أنه طال النظر فيه أكثر من اللزوم ويجب أن يُغلق، وسط دعوات إلى محاسبة المتجاوزين الذين فرّطوا في تلك الأملاك بأبخس الأثمان.
ولا يزال ملف الأملاك المصادرة يثير الجدل منذ أكثر من عشر سنوات، نظرا لتداخل العديد من الأطراف فيه، سواء من حيث التسيير والتصرف، أو في ما يتعلق بعمليات خصخصة الممتلكات.
ويقول مراقبون إن الملف يعدّ من أبرز ملفات الفساد في البلاد بعد ثورة يناير 2011، حيث لا يزال يراوح مكانه دون نتائج.
ويقصد بالأملاك المصادرة، تلك الأملاك التي تحصّلت عليها عائلة الرئيس الأسبق الراحل زين العابدين بن علي، بطرق وامتيازات غير قانونية (شركات، عقّارات، سيارات فاخرة، يخوت).
وليست المرة الأولى التي يدعو فيها سعيّد إلى الحسم في هذا الملف الشائك، حيث سبق وأن التقى في يونيو الماضي وزيرة العدل ليلى جفال، واعتبر أنه ليس من قبيل الصدفة إطلاقا أن هذا الملف لا يزال مفتوحا لأكثر من عقد من الزمن لأن الغاية معلومة وهي تسوية هذه الأملاك بالأرض ثم يقال بعد ذلك التسوية التي لا مساواة فيها ولا عدل.
والتقى الرئيس سعيّد مرّة أخرى، في قصر قرطاج، بكل من وزيرتي العدل والمالية، ليلى جفال وسهام البوغديري نمصية، للتطرق إلى الملف، حيث بقيت العديد من الأملاك مهملة أو تم التفريط فيها بأبخس الأثمان لتستفيد منها مجدّدا اللوبيات التي غيّرت أقنعتها واستولت مجدّدا على أملاك الشعب بطرق ملتوية، وفق ما ورد في بلاغ أصدرته رئاسة الجمهورية، مساء الأربعاء.
وأكّد سعيّد أن “هذا الملف طال أكثر من اللزوم ويجب أن يُغلق، كما يجب أن تتم محاسبة كل من فرّط في الأملاك المصادرة بأبخس الأثمان، مثلما حصل بالنسبة إلى عقار بمدينة الحمامات اقتناه أحدهم بمبلغ مليوني دينار (642.16 مليون دولار) وفرّط فيه بسرعة البرق بعشرين مليون دينار (6421.58 مليون دولار)”.
وأشار الرئيس التونسي إلى أن “الدولة لن تبقى مكتوفة الأيدي سواء بالنسبة إلى هذا العقار أو غيره من العقارات الأخرى، وستتم ملاحقة هؤلاء مع من شاركهم في هذه الجريمة ومن لا يزالون يعتقدون أنه بإمكانهم التفريط في أموال الشعب”، لافتا إلى أن “النظام القانوني الذي تم وضعه بعد الرابع عشر من يناير 2011 لم يؤدّ إلا إلى المزيد من الفساد وإلى المزيد من التفريط في مقدّرات الشعب التونسي”، مؤكّدا أنه “من غير المقبول أن يبقى هذا الملف مفتوحا لأكثر من عقدين من الزمن، فمن أراد الصلح صادقا فأبواب الصلح مفتوحة أمامه ومن أراد خلاف ذلك فليتحمّل مسؤوليته كاملة أمام القضاء”.
وأوضح سعيّد أنه “سيتم تعديل المرسوم المتعلق بالصلح الجزائي حتى لا تبقى الملفات تراوح مكانها فضلا عما أصاب المنقولات المصادرة على وجه الخصوص من تدن لقيمتها، بل أكثر من ذلك هناك من أهملها حتى يستفيد منها بأبخس الأثمان”.
وتعرضت العديد من الحكومات في العشرية الماضية لانتقادات وحتى اتهامات بالفساد بسبب سوء التصرف في الشركات المصادرة والتي كانت تدر زمن النظام السابق عائدات مالية هامة.
وتحدثت تقارير عن أن خصخصة بعض تلك الشركات لرجال أعمال بعينهم وبمبالغ زهيدة يأتي مقابل دعم مالي لبعض الأحزاب والشخصيات السياسية الحاكمة، فيما دعت الكثير من القوى اليوم إلى إعادة فتح الملف ومحاسبة المتورطين.
ملف الأملاك المصادرة يعدّ من أبرز ملفات الفساد في البلاد بعد ثورة يناير 2011، حيث لا يزال يراوح مكانه دون نتائج
وقال الناشط السياسي المنذر ثابت “كانت هناك إجراءات قضائية لإثبات أن عائلة الرئيس الأسبق بن علي استولت على تلك الأملاك دون موجب قانوني، وهناك تأسيس لشركة تتصرف في تلك الأملاك وفقا للقانون مع تحديد قيمتها”.
وأكّد في تصريح لـ”العرب” أن “هناك مشكلة في تحديد القيمة المالية لتلك الأملاك والفترة الزمنية التي طالت بشأنها، مثل قصر سيدي الظريف وقصر صخر الماطري وأملاك ومنازل ضخمة تركت لحالها، ويبدو أن العملية تسبّبت في هبوط قيمة العقّار”.
وتابع ثابت “لا ننسى أيضا الملف المعقّد إذاعة شمس، التي فيها نقابات ومصالح المشتغلين والمنتمين إلى تلك المؤسسة، وتأجيل خصخصة المؤسسات سبب في الحطّ من قيمتها المالية، وكان بالإمكان أن تتعهّد الدولة بصيانة تلك الأملاك ليبقى سعرها في الوضع الطبيعي”.
ولفت إلى أن “الدولة يمكن أن تستفيد من تلك الأملاك بصيانتها وطرحها في مناقصات موجّهة خصوصا للمستثمرين الأجانب”.
من جهته، أكد المحامي منير بن صالحة أن “الأملاك المصادرة ملف حارق”، مشيرا إلى “تلاعب أحزاب بهذا الملف والذي تقدر قيمته بالآلاف من المليارات”.
وأوضح في تصريح لإذاعة محلية أن “ما صرح به الرئيس سعيد يؤكد تورّط وزراء وموظفين وسياسيين وخبراء في هذا الملف”، لافتا إلى أن “مزادات الأملاك المصادرة تتم بطريقة غامضة ومبهمة وبالمراكنة دون الإعلان عنها بشفافية من قبل الأطراف المشرفة على الأموال المصادرة”.
ونشر مرصد رقابة في شهر يوليو الماضي تقريرا مثيرا للجدل كشف أن عائدات الخصخصة في الأموال والممتلكات المصادرة إلى موفى سنة 2021 قدرت بحوالي 3000 مليون دينار “مليار دولار” وأن 1900 مليون دينار “650 مليون دولار” منها فقط تم تحويلها إلى ميزانية الدولة.
وفي سبتمبر الماضي، تم تحجير السفر عن رجل الأعمال المشهور مروان المبروك وأربعة من أفراد عائلته في ملف يتعلق بشبهة سوء تصرف في الأملاك المصادرة.
وأفاد المحلل السياسي نبيل الرابحي بأن “ملف الأملاك المصادرة والمنهوبة أصبح يصنّف من ملفات الفساد، وكنّا نعتقد بأنه سيغلق بمسؤولية، لكن اكتشفنا أن بعض الأملاك تباع بأبخس الأثمان”.
ودعا في تصريح لـ”العرب” إلى “ضرورة محاسبة كل من ساهم في هذا العمل الإجرامي، كما أن الرئيس سعيّد حسنا فعل بفتح هذا الملف”، قائلا “هناك أطراف استفادت من ذلك وتم التفريط في تلك الأملاك بالمحاباة والولاءات الحزبية”.
وأضاف الرابحي “ملفات الأملاك المصادرة والدولة العميقة والتعيينات التي أغرقت الإدارة بعد 2011 كلها ملفات مرتبطة ببعضها البعض، وممارسات الفساد طالت كل دواليب الدولة”.
واستطرد قائلا “الدولة العميقة هي من تعطّل فتح هذا الملف وتقف حائلا أمامه”.
وكان غازي الشواشي، وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية في عهد رئيس الحكومة الأسبق إلياس الفخفاخ، وهو موقوف في ملف التآمر، أكد في تصريحات عندما تولى الوزارة أن شخصيات من بين التي تمت مصادرة أملاكها لها علاقات داخل الدولة وإمكانيات للتصدي للقوة العامة المكلفة باسترجاع هذه الأملاك.
وكان القاضي المتقاعد أحمد الصواب أعلن استقالته من لجنة التصرف في الأملاك المصادرة في 2015 بسبب ما وصفه بتعرض اللجنة لهجمة بتواطؤ من الدولة.