تونس تراهن على إصلاح قطاع التعليم المتدهور منذ سنوات

وزير التربية: نحن بصدد إصلاح تركة ثقيلة على مستوى القطاع التربوي.
الاثنين 2024/03/25
الأساليب البيداغوجية التقليدية لم تعد مجدية

يعيش قطاع التعليم في تونس منذ سنوات طويلة على وقع حزمة من الأزمات والمشاكل التي أثرت على جودته في الترتيب العالمي، كما أن محاولات الإصلاح لا تزال تراوح مكانها بسبب التجاذبات السياسية بين وزارة التربية والنقابات، إلى جانب عدم تطوير الطرق التقليدية والبرامج البيداغوجية في وقت ينتقل فيه العالم إلى رقمنة القطاع.

تونس - بات إصلاح قطاع التعليم المتدهور من أولويات الحكومة التونسية التي تسعى لبذل جهود كثيفة خصوصا بعد إجراءات الخامس والعشرين من يوليو 2021، لإصلاح منظومة التعليم المأزومة في السنوات الأخيرة. وتقول أوساط تربوية، إن واقع التعليم في تونس تراجع بكيفية كبيرة انعكست سلبا على المجتمع في مستوى السلوكات والقيم والأخلاق والروابط والعلاقات، حيث لم يعد دور المدرسة والمعلم مؤثرا في الطلاّب مثل ما يشاهدونه في الشارع.

وتتطلب عمليات إصلاح هذا القطاع الحيوي شراكة واسعة بين مختلف المكونات المتداخلة في المجال، على غرار وزارة التربية والخبراء والبرلمان والنقابات، إلى جانب وضع آليات وبرامج مدروسة وواضحة، فضلا عن تنظيم حوار حقيقي حول المسألة يعالج مختلف الجوانب المتداخلة في العملية التربوية.

ويعاني قطاع التعليم في تونس من أزمة حادة عقب اندلاع ثورة يناير 2011، في ظل تراجع المنظومة التربوية خاصة على مستوى المناهج وبسبب النقص في عدد المدرسين، إضافة إلى تدهور البنية التحتية وتداعيات المطالب النقابية على سير الدروس، ما جعل البلاد تحتل مراكز غير مطمئنة في التصنيفات الدولية للقطاع، كما ساهمت السياسات الخاطئة في تدني هذا القطاع، وسط تحذيرات الخبراء من تراجع جودة التعليم في تونس.

ووصف وزير التربية في تونس محمد علي البوغديري الوضع التعليم الحالي بـ”التركة الثقيلة لعشر سنوات عجاف اعتمد فيها على نظام النيابات وصل عددها إلى 20 ألف نيابة في المستويين الابتدائي والثانوي”. وأكد البوغديري، مساء السبت، بالمهدية (شرق) أن عدد الشغورات في صفوف المعلمين بلغ في العام الدراسي الحالي حوالي 790 شغورا.

وقال البوغديري، في تصريح إعلامي لدى افتتاحه الدورة 15 للمهرجان الدولي للعلوم والتكنولوجيا، إن الوزارة والحكومة تعكف على رقمنة القطاع التربوي، لافتا أن “الوزارة انطلقت في العمل الميداني من خلال تركيز منصة تونس المستقبل والتي تحمل شعار فوق كل ربوة مدرسة حديثة”.

ناجي جلول: مشاكل التعليم في تونس تركة ثقيلة منذ 30 سنة
ناجي جلول: مشاكل التعليم في تونس تركة ثقيلة منذ 30 سنة

وستكون هذه المدارس، وفق البوغديري، مرتبطة بالألياف البصرية عالية التدفق وعلى أسطحها ألواح الطاقة الشمسية”، مضيفا أنه “يجري إعداد الإطار التربوي والإداري والتلاميذ للربط بالإنترنت”، مشيرا إلى أن كل تلميذ له رقم سري على هذه المنصة”. وتمكن هذه القاعدة الولي من الاطلاع على سير الدراسة لابنه والاطلاع على أعداده وغياباته وسلوكه في الفضاء المدرسي.

وشدد الوزير، من جهة أخرى، على أن العدد الحقيقي للمشاركين في الاستشارة الوطنية لإصلاح القطاع التربوي ناهز مليون فرد”، ملاحظا أنه “سيجري الاستئناس بمخرجات هذه الاستشارة للرفع من مردود القطاع وتلافي الخلل وإرساء بناء جديد”. وظلّ إصلاح التعليم في تونس في قلب الصراع السياسي، وظهر في معظم الإصلاحات التربوية بعد الاستقلال، سواء في رهان توحيد التعليم أو في السؤال عن لغة التعليم بين التعريب وثنائية اللسان، وصولا إلى البرامج، وخاصة تلك المتعلقة بالتربية الدينية والفلسفة.

وأفاد وزير التربية السابق، ناجي جلول أن ” مشاكل التعليم في تونس تركة قديمة وثقيلة منذ أكثر من 30 سنة”، متسائلا في تصريح لـ”العرب”، “هل الوزير الحالي قادر على إصلاح القطاع بميزانية تخصص منها 97 في المئة لأجور الأساتذة والمعلمين والموظفين في القطاع”.

ولخّص ناجي جلول مشاكل القطاع في “تدني أجور رجال التعليم في كل أصنافها، مع وجود آليات التشغيل الهش، والتوظيف الاجتماعي، فضلا عن ضعف البنية التحتية، وغياب المدرسة الحاضنة التي تعوّض دور الأسر، إلى جانب غياب الرقمنة في ظل التطور التكنولوجي والاقتصادي”. وتابع وزير التربية السابق، ” بعد استقلالها في سنة 1956 كونت تونس رغم فقرها، منظومة تربوية متماسكة، وكانت محل دراسة من سنغافورة، وبالتالي وجب تدعيم إمكانات وزارة التربية عبر الزيادة في الميزانية المالية المخصصة لها، أو القيام باكتتاب وطني للتعليم”.    

وثمة إجماع من قبل الخبراء بأن المنظومة الحالية دخلت منذ أكثر من ثلاثة عقود مرحلة تراجع الجودة التي صارت خاضعة لمصالح شخصية وتجاذبات معلنة بين الوزارة والنقابات، كما تم إقصاء جميع الأطراف ذات العلاقة كمنظمات المجتمع المدني والتلاميذ والأولياء. ومنذ 2011، تواتر العديد من الوزراء على تقلد منصب وزارة التربية في البلاد، وظلّ إصلاح منظومة التعليم والارتقاء بجودة البحث والمعرفة مجرد شعارين.

وتعتبر أوساط سياسية أن إصلاح واقع التعليم المتردي يبدأ عبر مراجعة الزمن المدرسي وتحيينه، ومراجعة الحياة العامة داخل المؤسسة التربوية في مستوى المعاملات والعلاقات والأنشطة المعرفية والترفيهية، علاوة على ضرورة تخصيص موازنات مالية هامة لذلك.

وقال عامر الجريدي، كاتب عام منظمة التربية والأسرة، إن “التركة الثقيلة التي أشار إليها وزير التربية تتمثل في التراكمات السلبية التي راحت فيها المدرسة العمومية التونسية في خبر كان، وهي أشباه السياسات المتعاقبة عليها منذ ما سمّيت إصلاحات كانت في الحقيقة صراعات أيديولوجية وسياسية (سلطة-معارضة) كانت المدرسة حلبتُها، وما عدم تفعيل المجلس الأعلى للتربية القومية غداة الاستقلال والمجالس التي تلتْه إلاّ مؤشّر بداية على ‘التّرِكة’ التي ورثتها تونس حاليّا".

عامر الجريدي :المنظومة التربوية تلقت ضربة قاصمة بعد 2011
عامر الجريدي: المنظومة التربوية تلقت ضربة قاصمة بعد 2011

وأكد لـ"العرب"، أن "المدرسة كانت عنصر مناكفة بين حداثيي ومحافظي تونس المستقلة انتصر فيها الحداثيون (دون طابع اليسار ولا التغريب) للمدرسة. لكنّ نجاحها لم يلبث أن أدّى إلى صراع سياسي ذو خلفية أيديولوجية بين السلطة والمعارضة اليسارية الوليدة في الستينات حيث كان تعريب التعليم في النصف الثاني من السبعينات، مواجها من السلطة لحداثة اليسار باسم الهوية العربية-الإسلامية، ومثّل إصلاح “تحديث التعليم” (وعقلنته) في أوائل التسعينات توجّهًا يساريا حقوقيا على نقيض ‘وسطيّة’ مشروع دولة الاستقلال الذي كان تمايزًا عن الماضوية الزيتونية وانخراطًا في الانفتاح في نفس الوقت".

ولفت الجريدي أن “إصلاح سنة 2002 كرّس سَلفهُ دون أن يكون لأيّ من الإصلاحات الثلاثة النقلة النوعية للمدرسة العمومية، وجاءت سنة 2011 لتتلقّى المنظومة التعليمية ضربة قاصمة من وزير التعليم آنذاك (الطيب البكوش)، باسم الثورة والحقوق والحريات، بإقالة جميع مديري المدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية، وإخراج المنظمات من مؤسسات التعليم، وهو ما مثل ضربة إجهاز على المنظومة، وتواصلت إرهاصات المدرسة في مهبّ الصّراعات الأيديولوجية والعقائدية بين من يروم 'أسلمة' التعليم ومن يسعى لـ’يسَرنَتِه’ حتّى 2022 حيث وقع سنّ مجلس أعلى للتربية والتعليم في الدستور، وجعل رئيس الجمهورية من إصلاح التعليم (روضة ومدرسة ومعهدا وجامعة وتأهيل مهني وللحياة) أولوية وطنية".

وأشار إلى أن “عملية الإصلاح معقدة تتطلب بعد نظر من القائمين على الدولة أوّلا، ومن الأطراف الشريكة في العملية الإصلاحية (المدرّسون خارج الإطار التنظيمي المؤسسي، قطاع الإعلام، المؤسسة الدينية، المجتمع المدني بما في ذلك النقابات بالخصوص، القطاع الخاص..). وهي تتطلب باراديغمات (منطلقات تفكير جديدة)، ورؤية لمدرسة لا يمكن إلاّ أن تكون مسؤولة-ذكيّة (وهي عبارة مصطلحية تحيل إلى الرسالة الأولى للمدرسة التي لا تعدو إلاّ أن تكون أخلاقية وفكرية.. إن الحديث عن أيّ إصلاح قبل تحديد الباراديغم والرؤية والرسالة لن يزيد المدرسة العمومية إلاّ تخبّطا وخسارة".

ويشكو أولياء التلاميذ والكادر التعليمي من كثافة المناهج التربوية وطولها، فضلاً عن عدم تحديث العديد من الكتب المدرسية منذ مدة، ما يجعل موادها متأخرة عن واقع يعيشه التلاميذ عبر وسائط التعليم الأخرى. وفي وقت سابق، أشرف الرئيس التونسي قيس سعيّد، بقصر قرطاج، على جلسة عمل ضمت مختلف الوزارات، حول موضوع الاستشارة الإلكترونية التي أعلن سعيد عن تنظيمها حول إصلاح التربية والتعليم. وأكّد قيس سعيد على أن الإصلاح لا يمكن أن يكون كاملا إلا إذا تمّ وفق مقاربة شاملة تهمّ كل مراحل التعليم، وأن أي خطأ يمكن أن يحصل ليس من السهل تداركه إلا بعد سنوات، وأن أي ثمار لهذا الإصلاح لا يُمكن جَنْيها إلا بعد عقود.

4