توفيق عبدالعال يعود افتراضيا إلى زرقة فلسطينه المنشودة

طارق عبدالعال يخصّ "العرب" بلوحات لوالده الراحل لم تعرض من قبل.
الأربعاء 2020/11/11
الأزرق يمتد بحرا لا نهاية له

تعكس اللوحات التي خصّ بها طارق عبدالعال “العرب” مراحل متنوّعة من تجربة والده التشكيلي والشاعر الفلسطيني الراحل توفيق عبدالعال (1938-2002) في الرسم والتصوير الزيتي، وهو الذي أعاد استكشاف مسقط رأسه؛ مدينة عكا المحتلّة، من بلد إقامته لبنان، ضمن أعمال تحتشد بالألوان والأضواء وسط أزرق يمتدّ بحرا لا نهاية له.

أقام متحف جامعة بيرزيت وكلية الفنون والموسيقى والتصميم في الجامعة الفلسطينية، في مارس الماضي معرضا فنيا بعنوان “ترانيم البقاء” للفنان الفلسطيني الراحل توفيق عبدالعال، وذلك ضمن برنامج المعارض الفنية في متحف جامعة بيرزيت، بالتعاون مع دار النمر في بيروت، وباب الدير في بيت لحم وبدعم من مؤسسة عبدالمحسن القطان.

معرض كان من المزمع أن يمتد عرضه حتى شهر يونيو الماضي، لكن تفشي وباء كورونا حال دون ذلك، ليتحوّل إلى معرض افتراضي مفتوح لكل من يُريد التعرّف على مدينة عكا المحتلة، مسقط رأس الفنان، وفق تكوين زخرفي لوني مخصوص لعبدالعال.

طارق عبدالعال: من وجهة نظر والدي؛ لا شعب يُهزم إن كان على حق
طارق عبدالعال: من وجهة نظر والدي؛ لا شعب يُهزم إن كان على حق

فنان النكبة

أتى الحدث الفني، حينها، كجزء من مبادرة فنية طويلة تهدف إلى تسليط الضوء على فنانين من جيل النكبة الفلسطينية، ليس فقط من باب التأريخ أو النوستالجيا الفارغة من المعنى في زمن تبدو فيه كل القضايا المُحقة والأيديولوجيات على المحك وتحت مطرقة التحويل والتحوير، ولكن من باب السعي إلى إقامة الجسور في حال انقطاعها والحفاظ على استمراريتها المُلهمة متى أصابها اختلال ما تحت وقع الخيبات والصدمات المُتلاحقة.

قدّم المعرض فيلما وثائقيا مركّبا، يتضمن مشاهد للحياة اليومية في عكا وثلاث مقابلات قصيرة، الأولى مع ابنه طارق عبدالعال، والثانية مع فوزي بعلبكي تلميذه وصديقه، والثالثة مع قيم المعرض في نسخته البيروتية الفنان ناصر سومي. مع عرض لبعض الصور التوثيقية وصور للوحات ومنحوتات، وقراءة لأجزاء من كتابات توفيق عبدالعال وأشعاره.

واستقدم المعرض القائم على أرض فلسطين كوكبة من المثقفين الفلسطنيين والعرب والأجانب والمهتمين وطلاب الفن ونخبة من الفنانين على رأسهم الفنان سليمان منصور والفنان نبيل عناني.

ولم يكتب للمعرض الاستمرارية حتى موعد اختتامه بسبب آليات الحجر الصحي إثر انتشار وباء كورونا، ولكنه تحوّل إلى معرض افتراضي بديع الملامح أكّد رمزيا أن ثمة صيغا مُستحدثة يمكن الاعتماد عليها إن أُجهضت الأساليب التقليدية في إرساء وتفعيل وتحقيق الأهداف.

عن المعرض ودلالته حادثت “العرب” طارق عبدالعال، ابن الفنان، المقيم في دبي والحامل لإرث والده اليوم أكثر من أي زمن مضى، فقال “الفن طاقة تستطيع أن تحدث التغيير في حال لم تتمكن الأساليب الأخرى من تحقيقه إن لفسادها أو لقلة حيلتها أمام وحوش العصر”.

تعبيرات سوريالية تستلهم من الطبيعة مفرداتها التشكيلية
تعبيرات سوريالية تستلهم من الطبيعة مفرداتها التشكيلية

عبدالعال، الابن، انطلق في حديثه عن والده بحميمية يستحيل معها أن لا تلازمك فكرة أنك تستمع إلى الابن الذي انكب على تاريخ والده بشغف كبير، آخذا على عاتقه الحفاظ على رصيد والده الفني ومُشاركته مع الأجيال القادمة.

قال “ليس من السهل أن تتكلم عن فنان عندما يكون والدك، عبر كلمات، فمهما كثرت هي مُقلة وقليلة بحق إرثه الفني الفلسطيني واللبناني على السواء. بعد اقتلاعه من مدينته عكا عام 1948 انتقل إلى بيروت مع عائلته بعمر تسع سنوات وبدأ رحلته في تخطيط يافطات الترام وترميم الأيقونات في الكنائس. انتقل بعد ذلك إلى مدينة برمانا، حيث التقى بنخبة من الفنانين اللبنانيين وارتبط معهم بصداقة طويلة ومنهم الفنان عارف الريس والأخوان بصبوص”.

وعند سؤاله عن الاختلاف في ما بين نصه الفني ونص باقي الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، أجاب طارق “اختلف عنهم بأنه ابتعد عن الملصق السياسي ورفض تصوير النكبة وركّز اهتمامه على تصوير الثورة. فمن وجهة نظره أن لا شعب يُهزم إن كان على حق”.

أما لدى سؤاله عن طبيعة الفنان ومزاياه الشخصية، فقال “والدي كان إنسانا رومانسيا يحب الطبيعة. كل ما حوله يذكره بمدينته عكا. وكان يعثر عليها على شاطئ الروشة في بيروت وأزقة صيدا القديمة. كان يبغض العنف بغضا شديدا لذلك عند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية وقف على الحياد”.

ولدى ذِكرنا بأن الفنان قد سبق أن رسم بعض الملصقات سارع الابن بالقول “أقرّ بأنه لم يكن من السهل أن أفهم والدي في تلك المرحلة من الزمن، إذ كانت تتنازعه مشاعر وأفكار عديدة. وجدته حينا يرسم ملصقات يخلّد بها شهداء الواجب الفلسطيني ليعود بعد ذلك فيغوص في عالمه الخيالي الملوّن ليجسّد أعراس الطبيعة في فيض من اللوحات”.

شعر بصري

خيال ملوّن يجسّد أعراس الطبيعة
خيال ملوّن يجسّد أعراس الطبيعة

في العودة إلى اللوحات الكثيرة التي لم تُعرض في حينها ذكر طارق عبدالعال أنه في السابق لم يكن مقبولا على الفنان الفلسطيني أن يرسم إلا الملصقات السياسية. وكان يخاف من أن تُفهم أعماله الفنية غير المصنفة بالملصقات أنها محاولة للكسب المادي، لذلك حجبها عن الجمهور. وقد عانت عائلته خلال سنين طويلة من العوز المادي بسبب امتناعه عن عرض لوحاته الفنية.

وعمّا جرى خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، أجاب “تدهورت الأمور كثيرا خلال الاجتياح، لاسيما خلال الصراعات الداخلية في بيروت وتعرّض والدي للضرب المبرح من قبل مجموعة معروفة من المسلحين ما أضعف بصره حتى أنه فقده تماما، فتوجه بعد فترة انقطاع قاهرة إلى كتابة شعر بصري يشبه فنه”.

وكل مطلع على شعر توفيق عبدالعال يستشعر فيه رطوبة الزرقة والشواطئ البحرية بزبدها الأبيض وأمواجها المتدرجة الزرقة. أشعار تشي بعشقه لمدينته عكا التي استرجعها ليحيا بها كما يسترجع أي فنان “عميق” مدينته الخيالية/ الحقيقية أمام شواطئ ومدن تشبهها. مدن أحبها كما أحب بيروت العاصمة وصيدا الجنوبية بالرغم ممّا تعرض له من ظلم.

ويستطرد عبدالعال، الابن، قائلا “مع العدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 2006 تعرّض بيتنا إلى أضرار جسيمة.. أما أنا فما زلت إلى اليوم أجمع ما يمكنني جمعه من أشعار كتبها والدي ولم تنشر، كما أعمل على عرض لوحات له لم تُرَ من قبل. وأخصّ هنا جريدة “العرب” الكريمة بمجموعة من اللوحات التي لم تعرض من قبل”.

ويقول الفنان/ الشاعر الراحل توفيق عبدالعال في أبيات هي الأخرى لم تُنشر من قبل “فارقصي يا طيور/ وزغردي يا زهور/ العاشق للأرض عاد.. فهل يعود الوطن؟”.

وتوفيق عبدالعال فنان تشكيلي فلسطيني من مواليد عام 1938 في مدينة عكا في فلسطين المحتلة، توفي عام 2002 في بيروت، عن عمر ناهز 64 عاما.

أقام معرضه الأول، وهو طفل في التاسعة من عمره بإحدى مدارس عكا عام 1948، بإشراف أستاذه الرسّام جورج فاخوري. وبعد نكبة 1948 انتقل إلى لبنان، حيث عاش حتى وفاته.

وفي العام 1962 أقام في مدينة عاليه اللبنانية معرضه الأول الذي لفت إليه الأنظار، لتتتالى معارضه الفردية في كل من لبنان وسوريا والعراق وليبيا.

وكان الراحل فنانا دائم القلق، تنقل بين الواقعية والرمزية والتعبيرية والسوريالية، ومارس الرسم والتصوير والنحت والتخطيط وكتابة الشعر.

وفي العام 1980 أصدر الروائي والقاص علي حسين خلف، الذي كان صديقا مقربا لعبدالعال كتاب “توفيق عبدالعال، الخط، اللون، التصميم” الذي نشر في طبعة أولى في بيروت، ثم أرفقت بطبعة ثانية في العام 1985، صدرت عن دار ابن رشد بعمّان.

تكوين زخرفي تحتشد فيه الألوان والأضواء
تكوين زخرفي تحتشد فيه الألوان والأضواء
تنقل سلس بين الواقعية والرمزية
تنقل سلس بين الواقعية والرمزية

 

16