تهافت دبلوماسية مدريد أمام حسابات الرباط

حتى الآن يبدو من خلال المعطيات المتوفرة أن السياسة الخارجية الإسبانية في السنوات الأخيرة وقعت أسيرة لأحكام مسبقة وقوالب نمطية وجهل بالجار الجنوبي وافتقار إلى معرفة بطموحاته وأدوات تحقيقها.
الاثنين 2021/05/24
أزمة مستمرة ومتعددة النواحي

رَفْضُ المغرب ممارسة مدريد ازدواجية الخطاب والمواقف، هو موقف سيادي يدخل في سياق المتغيرات الاستراتيجية التي تعرفها المملكة على جميع الأصعدة، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية ناصر بوريطة بأن “على مدريد أن تعي أن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس، وعلى بعض الأوساط في إسبانيا أن تقوم بتحيين نظرتها إلى المغرب”.

في تقديري، الموقف ليس مرتبطا بحماسة عاطفية قد تؤثر سلبا على أداء السياسة الخارجية للرباط كما يعتقد البعض، بل هو من صميم الدبلوماسية الهجومية التي ارتضاها المغرب للدفاع عن مصالحه وتحصين مكتسباته في واقع يعترف بالقوة والمصالح، وأمام واقع أن مدريد لا تعرض حلا للأزمة المستشرية منذ وقت طويل، وزاد من حدتها التعامل غير المهني مع ملف الصحراء في كل تفصيلاته، وعليه يعمل المغرب على استغلال كل الأوراق التي بحوزته لحماية مصالحه ضد خصومه سواء على الصعيد الأوروبي أو الأفريقي.

التعامل مع تعقيد الموقف وغموضه وما يجري حوله يحتاج إلى الدقة والبصيرة والمعرفة الكاملة بالذات والدولة الشريكة

 الحمّى التي أصابت وسائل الإعلام الإسبانية بعد تدفق المهاجرين نحو سبتة المحتلة، أخفت الدقة والموضوعية والحياد وراء غابة من الاختلافات في لعبة سياسية هدفها الترويج لأباطيل ليس آخرها كيف تعامل المغرب مع ملف الهجرة، ما دفع ناصر بوريطة لاعتبار الهجوم الإعلامي الإسباني تجاه المغرب على أساس أخبار زائفة لا يمكن أن يخفي السبب الحقيقي للأزمة، وهو استقبال مدريد لزعيم ميليشيات البوليساريو الانفصالية بهويّة مزورة.

السياسة الاسبانية الحالية ضد المغرب تتكشف في الفضاء الإعلامي، والمعنى أن تصميم خطاب إعلامي موجه ينهل من بروباغندا غير واقعية غرضه التغطية على الخطأ الكارثي الذي ارتكبته الحكومة في مدريد، ومطالب الرباط بالشفافية إزاء الرأي العام الإسباني، هو درس دبلوماسي وسياسي.

يجب أن تنطلق حملات دبلوماسية لكشف النقاب عن الوجه الحقيقي لحكومة مدريد، إذ كيف يمكننا الوثوق بدولة اعترفت حكومتها بزعيم البوليساريو الانفصالية عندما استقبلته فوق أراضيها “لدواع إنسانية” وهو المطلوب في قضايا ضد الإنسانية، أليس هذا نوعا من التواطؤ الغاية منه تفتيت أوصال المملكة المغربية؟

من الطبيعي أن تدعو مدريد الرباط لمفاوضات خلف أبواب مغلقة، لكن حسابات المغرب تؤكد الإجابة على أسئلة حسن الجوار وحقيقة الشراكة بين الطرفين، حسابات تنهل من جوهر الاتفاقات التي يتم التوصل إليها سواء مع الجانب الإسباني أو الأوروبي، وبالخصوص في مسألة الهجرة حيث أن أوروبا لا تمنح حتى 20 في المئة من التكلفة التي يتحملها المغرب في محاربة الهجرة غير الشرعية، وما حدث مؤخرا أظهر أن 99 في المئة من جهود المكافحة يقوم بها المغرب مقابل “لا شيء من الجانب الآخر”، كما يقول ناصر بوريطة.

إسبانيا، كقوة استعمارية، تريد من خلال الزوبعة التي خلقتها هذه الأيام أن يميل التوازن الاستراتيجي لصالحها
إسبانيا، كقوة استعمارية، تريد من خلال الزوبعة التي خلقتها هذه الأيام أن يميل التوازن الاستراتيجي لصالحها

فإسبانيا، كقوة استعمارية، تريد من خلال الزوبعة التي خلقتها هذه الأيام أن يميل التوازن الاستراتيجي لصالحها. ونتساءل هنا، هل اعترض المغرب يومًا على توجه خصومه  لشراء أسلحة متطورة، لا أعتقد ذلك، لذا  فقد حان الوقت للذهاب لدبلوماسية هجومية ومواجهة حكومة مدريد.

 أن تتخلى وزيرة الدفاع الإسبانية مارغريتا روبليس عن لباقتها الدبلوماسية في القول وتصف المغرب بـ”البلد المبتز والعدائي”، فهذا يعني أن هناك أطرافا داخل الحكومة وخارجها تريد أن تنهج سياسة الأرض المحروقة ضد المغرب لتركيعه وإخضاعه لإملاءاتها. ولكن لتسليط الضوء على هذا التهديد على المستوى الدولي نحن في حاجة إلى وزارة خارجية قوية وشجاعة وأحزاب مناضلة ومنظمات مجتمع مدني وإعلام يملكون إمكانيات الدفاع والهجوم وأدواتهما.

يتوقع السياسيون في إسبانيا الذين يقررون السياسة الخارجية التصفيق لكل خطوة يقومون بها، وإن كانت لا تصبّ في المصالح العليا المشتركة للبلدين، ويراهن هؤلاء في سياق بيئة وسائل إعلام مرهونة في غالبيتها لخطاب يميني متشنج، التقليل من قيمة الخبرة والبصيرة في السياسة الخارجية وقيمة المعرفة الموضوعية لما وراء البحر المتوسط.

هذه البيئة السامة هي التي دفعت مارغريتا روبليس إلى التصريح للإذاعة الإسبانية بأن بلادها لن تقبل ما أسمته “الابتزاز على الحدود مع سبتة أو التشكيك في السلامة الإقليمية للأراضي الإسبانية”، مضيفة أن “سلامة إسبانيا غير قابلة للتفاوض، وسنستخدم كل الوسائل اللازمة لضمان وحدة الأراضي ومراقبة الحدود”.

تصريحات تتنكر للأعراف الدبلوماسية وتذبح قواعد القانون الدولي بسكين بارد. موقف لا يمكن أن نصفه سوى بـ”الرعونة الاستراتيجية”، المصطلح الذي نحته الخبير الاستراتيجي ومدير البرامج في نادي فالداي الدولي تيموفي بورداتشيف، ويعبر تماما عن الوضعية الحالية التي تشهدها الدبلوماسية الإسبانية، ونتيجتها خلق مواقف محفوفة بالمخاطر من أجل المصالح اللحظية.

الملاحظ فيما يجري حاليا هو عدم الرغبة في فهم دوافع المغرب ومنطقه في تدبير أمنه القومي وسياساته الخارجية، فضلاً عن مخاوفهم من أيّ تعبير عن مظاهر سيادة المغرب، سواء في جغرافيته الممتدة من الصحراء جنوبا إلى سبتة ومليلية المحتلتين شمالا ومن الحدود الشرقية إلى ما وراء المياه الإقليمية في المحيط الأطلسي، وما ينتج عن ذلك من استغلال لثروات البلد فيما ينفع مستقبل المواطن المغربي وحاضره، فالخيال المبني على أبجديات العقيدة الاستعمارية يرسم بسهولة المغرب كخصم بأكثر الألوان كآبة.

أصبح أعضاء الحكومة الإسبانية في هذه الأيام، من رئيسها وحتى وزرائها الرئيسيين، فريسة سهلة للأيديولوجيا نتيجة الافتقار إلى المعرفة الأساسية بالطرف المغربي في العديد من الملفات ومنها الهجرة والتجارة والصيد البحري والحدود الوهمية والواقعية. وكنموذج فاضح على ذلك ما قالته مارغريتا روبليس حول تدفق المهاجرين من المغرب الاثنين الماضي نحو سبتة المحتلة، واصفة ذلك بـ”اعتداء على الحدود الإسبانية وكذلك على حدود الاتحاد الأوروبي”.

نتيجة لذلك، تم استدعاء السفيرة المغربية من إسبانيا للتشاور. وهو عرف دبلوماسي ينذر بأن الأمور ليست على ما يرام، فقد تم استنزاف العقلانية والاحترام المتبادل المفترض في حوار السياسة الخارجية، بين المغرب وإسبانيا، بتبجح المسؤولين الإسبان وتغاضيهم عن التاريخ والجغرافيا والوثائق التي تفضح تشويههم الصورة الحقيقية باحتلالهم للمدينتين وهذا الأمر لا يسقط بالتقادم.

تصميم خطاب إعلامي موجه ينهل من بروباغندا غير واقعية غرضه التغطية على الخطأ الكارثي الذي ارتكبته الحكومة في مدريد

في ظل الظروف الحالية للأزمة المستمرة ومتعددة النواحي بين المغرب وإسبانيا نحتاج إلى معرفة نوعية لبعضنا البعض أكثر من أيّ وقت مضى، وبشكل أكبر لا بد للطرف الآخر أن يتخلى عن نظرته الغارقة في الاستعلائية والعنصرية تجاه المملكة المغربية، فالتعامل مع تعقيد الموقف وغموضه وما يجري حوله يحتاج إلى الدقة والبصيرة والمعرفة الكاملة بالذات والدولة الشريكة.

حتى الآن، يبدو من خلال المعطيات المتوفرة أن السياسة الخارجية الإسبانية في السنوات الأخيرة وقعت أسيرة لأحكام مسبقة وقوالب نمطية وجهل بالجار الجنوبي المغربي وافتقار إلى معرفة محيّنة بطموحاته وأدوات تحقيقها ما جعل الأخطاء تتراكم والأزمات تتوالى.

9