تنافس بين قوى جهادية في أفريقيا يفتح مسار التفاوض مع القاعدة

تضخم نفوذ داعش يرجح قبول قوى دولية بالتفاوض مع القاعدة أو رعاية مفاوضات بين التنظيم والحكومة المحلية.
الجمعة 2020/03/20
القاعدة في مالي تمد يدها للتفاوض

أعلن التحالف الذي يضم جماعات موالية لتنظيم لقاعدة في غرب أفريقيا تحت اسم “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” عبر مؤسسة الزلاقة، الذراع الإعلامية للتنظيم، عن قبوله مؤخرا الدخول في مفاوضات مع حكومة مالي نزولا عند رغبة الشعب المظلوم، على أن ينص الاتفاق المرتقب على انسحاب القوات الغربية من المنطقة.

تزامن الإعلان من فرع القاعدة في غرب أفريقيا مع تغييرات جرت في هيكل قيادة تنظيم ولاية غرب أفريقيا الموالي لتنظيم داعش والمنشق عن جماعة بوكو حرام النشطة في نيجيريا، وهي تغييرات تعكس حرص فرع داعش على وحدته الداخلية في مسار تبني ذروة مستويات العنف في مواجهة القوات الحكومية المحلية وقوات التحالف الدولي.

تم الإعلان عن مقتل زعيم ولاية غرب أفريقيا إدريس البرناوي المكنى بـ”أبوعبدالله البرناوي” واثنين آخرين من قادة التنظيم، هما أبومريم وأبوزينب، بأوامر صادرة من قادة آخرين بالتنظيم، وهو ما يؤثر على توازنات التنظيم.

لذلك صار من المرجّح أن يصبح سيناريو مفاوضات طالبان الأفغانية مع الولايات المتحدة نموذجا يحتذى في الحالة الأفريقية، نظرا لتشابه المعادلة في مناطق حيوية بالقارة مع مثيلتها في أفغانستان، من زاوية توزيع الجهاديين على جبهتين الأولى قاعدية تجنح للتفاوض، والأخرى داعشية توغل في الوحشية والثأر.

تنطوي التغييرات على وجود إرادة جماعية بتنظيم داعش دفعت نحو هذا الاتجاه، خاصة وأن القائد الجديد الذي يُدعى أبوشيماء يحظى بدعم القيادة المركزية للتنظيم، وصار نائبه لوان أبوبكر الذي قاد عملية التصفية في حق القادة المخلوعين.

ويهدف داعش إلى توحيد صفه الداخلي والقضاء على مسببات الانقسام وتثبيت مناهج وأساليب تعاطيه مع الخصوم التي تميّزه عن تنظيم القاعدة، حيث تمت التصفية ضد من يُتهَمون من القادة بالتساهل مع العدو بعد أن أصدروا أوامر بالكف عن ملاحقة مقاتلي التنظيم الفارين من المعارك وإعدام الأسرى من جنود وضباط الجيش.

أعطى انفصال أبومصعب البرناوي بمجموعته عام 2015 عن أبوبكر شيكاو القائد الأكثر دموية ووحشية بحجة توغل الأخير في العنف، انطباعا بوجود فرعين متنازعين لداعش في غرب أفريقيا.

الحكومة المالية، ومعها القوى الغربية، تخشى من تطوير العلاقة بين داعش والقاعدة إلى تحالف يصعب تفكيكه

وبعد إقصاء أبومصعب في انقلاب أبيض، وقتل مساعده المقرب مامان نور، وأخيرا قتل خليفته أبوعبدالله البرناوي ومساعديه قبل أيام، يتأكد تخلص التنظيم من التيار الداعي إلى انتهاج سبل المرونة مع المخالفين ليصير الفرع المنشق أكثر قربا في الممارسة والقناعات من بوكو حرام وسياسات القيادة الأكثر حدية وعنفا.

تنهض جهادية ثنائية في دول غرب أفريقيا تغري القوى الدولية بالدخول في مسار تفاوضي مع أحد طرفيها، فتنظيم القاعدة يتعامل بواقعية ويفصل المصالح عن دوافع العداء الأيديولوجي ويتعامل بوصفه كيانا محليا يسعى إلى تحقيق مصالح داخلية متجاوزا القناعات والأهداف التنظيمية.

لا يكفّ داعش في المقابل عن المزايدة على مواقف غريمه، معتمدا على الترويج لنفسه في صورة النسخة الأكثر نقاء من الناحية العقائدية، وبوصفه المتصدي الأوحد لمشاريع الغرب الاستعمارية، مع التركيز عبر منابره الإعلامية وحسابات أعضائه على فضح تخاذل القاعدة وما يعنيه عقده اتفاقيات صلح مع الأعداء للهروب من ساحات الجهاد وتنكر لتعاليم الشريعة.

ما يرجح قبول القوى الدولية، وفي مقدمتها فرنسا، التفاوض مع القاعدة أو على الأقل رعاية مفاوضات بين التنظيم والحكومة المحلية مقابل انسحاب قوات التحالف الدولي، هو النفوذ الذي أحرزه تنظيم داعش في المنطقة، الأمر الذي يعقد مهمة القضاء عليه بالوسائل العسكرية ويجعلها مستحيلة.

اتبع داعش مسلكا مزدوجا يجمع بين القسوة في مواجهة الخصوم من القوات الدولية والمحلية، مع إبداء قدرة على كسب ولاء المجتمعات المحلية عبر تقديم الخدمات وتيسير سبل المعيشة للمواطنين.

طرح داعش نفسه كبديل قادر على التمدد والبقاء عبر السيطرة الاجتماعية والاقتصادية، في مقابل الإهمال الحكومي والعجز عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الصحية وفرص الشغل والتعليم وانهيار البنية التحتية في مناطق شاسعة بحوض بحيرة تشاد، التي تضم الكاميرون وتشاد ونيجيريا والنيجر، علاوة على منطقة الحدود الثلاثية بين مالي والنيجر وبوركينافاسو.

وبتأسيس كيانات منفصلة عن الحكومات المحلية أصبح لتنظيم داعش ما يشبه هياكل الدولة الموازية التي تحفر آبار المياه وتنظم العيادات الطبية والفصول التعليمية وتفرض الضرائب وتتحكم في الأمن والتجارة.

حظي التنظيم بما هو أكثر من الملاذ والحاضنة، حيث بلغت ثقة قطاع من السكان المحليين المحبطين من الحكومات المحلية به حدّ حمل السلاح والقتال تحت رايته، بعد أن أدت الغارات الجوية الهادفة إلى القضاء على مصادر تمويله إلى تعريض سبل عيش المدنيين للخطر.

المفاضلة بين “دولة جهادية”، بزعامة داعش، تسعى لاستغلال نفوذها في القارة الأفريقية لتوجيه ضربات انتقامية ضد الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي شاركت في تأسيس تحالف إقليمي للقضاء على الإرهاب، وجماعات موالية للقاعدة أكثر براغماتية وأقل عدائية، كانت دافعا كافيا لفتح قنوات اتصال ورعاية محادثات سلام تعزز من حضور نموذج البديل الجهادي المحلي الذي يطبقه القاعدة.

ترتكز هذه الرؤية على احتواء الجماعات الموالية للقاعدة ودعمها ماليا في سياق شراكة في السلطة محتملة من شأنها تقليص نفوذ داعش تدريجيا، بالمقارنة بالمزايا المادية والمعنوية التي يحوزها القاعدة، وهو ما يفكك مرحليا الحواضن الاجتماعية لداعش ويعمق الانقسامات داخله ويشجع العناصر المعتدلة على التمرد والانفصال.

مفاضلة بين الجماعات الإرهابية!
مفاضلة بين الجماعات الإرهابية!

على الرغم من المزايدات والتنافس الإعلامي والخلاف الأيديولوجي هناك تعاون لوجيستي بين القاعدة وداعش في بعض المعارك وفي تحصيل الضرائب والسماح لبعضهما بالمرور الآمن بمناطق سيطرتهما، وتخشى الحكومة المحلية ومعها القوى الغربية من تطوير العلاقة بين الجماعتين إلى تحالف يصعب اختراقه وتفكيكه، وهو سيناريو كارثي تترتب عليه آثار أمنية طويلة الأمد لا تقتصر فقط على أفريقيا.

استبقت الحكومات المحلية في غرب أفريقيا، خاصة حكومة مالي، سيناريوهات قاتمة من نوعية توحيد صف الجهاديين من مختلف الانتماءات، ودعت إلى الحوار مع النسخة الجهادية المحلية الأقل تشددا والتي لا تذهب في قناعاتها وممارساتها بعيدا إلى طموح إقامة خلافة عالمية انطلاقا من أفريقيا، ما دفع الرئيس المالي إبراهيم أبوبكر كيتا إلى الدعوة لأول مرة في فبراير الماضي إلى الحوار والتفاوض مع تنظيم القاعدة في بلاده.

قبول قادة القاعدة في غرب أفريقيا، “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، للتفاوض وفق البيان الأخير، وإن حمل نبرة استعلاء وأنهم لم يتخذوا قرارهم هذا إلا تحت ضغط الرغبة الشعبية، هو بمثابة مخرج لجميع الأطراف المحلية والدولية من حرب لم يحقق أي منها النصر الحاسم فيها وزادت تعقيداتها مع تنامي نفوذ ولاية غرب أفريقيا الموالية لداعش.

وفرت حسابات المصلحة الذاتية الدافع لدى القوى الغربية، في مقدمتها فرنسا، لمراقبة خطط التفاوض وعدم ممانعة التوصل إلى اتفاق سلام مع القاعدة خاصة مع عدم اكتراث واشنطن بما آلت إليه الأوضاع في غرب أفريقيا.

بدأت الولايات المتحدة فعليا سحب قواتها من النيجر وبوركينافاسو وغيرهما، تماشيا مع ما أعلنه الرئيس  الأميركي دونالد ترامب عن كراهيته للحروب الصغيرة في الأماكن النائية، ومنحه الأولوية المطلقة للملف الإيراني والمواجهة المستقبلية المحتملة ضد الصين.

مع مرور الوقت وتحول المعارك إلى حرب استنزاف وانسحاب الشركاء صار احتمال تحقيق نصر عسكري كامل ضئيلا، ولم يعد تفكير غالبية دول أوروبا منصبا على كيفية ملء الفراغ الأميركي في حرب تبدو خاسرة، إنما صار الرهان على ما ستقدمه الجماعات الموالية للقاعدة بعد قبولها الدعوة إلى طاولة المفاوضات.

13