تلقين الأبناء كيفية تجاوز الإخفاق الدراسي ثقافة غائبة عن المصريين

يؤكد خبراء في علم النفس التربوي على أن تشجيع الأبناء على تجاوز الفشل الدراسي يجنبهم التفكير في الانتقام، مشيرين إلى أن التهديد والوعيد والعقاب سلوكيات أبوية من شأنها أن تجلب نتائج عكسية للأسرة برمتها. ولا تكترث بعض الأسر في مصر بخطورة عدم تهيئة الأبناء مبكرا لتجاوز الإخفاق الدراسي، والتعامل معه بهدوء وحكمة وثقة بالنفس.
القاهرة - تعكس وقائع انتحار بعض المراهقين في مجتمعات عربية إثر الإخفاقات الدراسية معاناة الكثير من الأسر جراء غياب ثقافة تنشئة الأبناء على تجاوز الفشل بطرق سليمة، واعتباره بداية لتحقيق النجاح، وتحولت وقائع الانتحار بين الطلاب والطالبات في مراحل تعليمية مختلفة إلى ما يشبه الظاهرة المخيفة التي تتطلب وقفة جادة للحد من استمرارها بنفس المعدلات.
في مصر مثلا تزداد وقائع الانتحار كل عام خلال فترة الامتحانات وبعد إعلان النتيجة رسميا لشعور بعض الطلاب بأنهم لم يتمكنوا من حجز مقاعد جامعية مناسبة لهم، بسبب الفشل في تحصيل المواد الدراسية، أو عدم الحصول على درجات تُرضي الأسرة، مع ذلك لا توجد مبادرات للتوعية بكيفية التعامل مع هؤلاء لتجاوز الفشل.
أقدم خمسة من الشباب والفتيات في مصر مؤخرا على الانتحار عقب ظهور نتيجة الثانوية العامة (البكالوريا)، أحدهم ألقى بنفسه من الطابق السادس بعد أن علم بحصوله على درجات منخفضة لا ترضي أسرته، وأخرى أشعلت النار في نفسها ولفظت أنفاسها، خوفا من الفشل في الالتحاق بكلية مرموقة، وهما من الوقائع التي تتكرر كل عام.
التربية القائمة على الترهيب أو التحفيز المبالغ فيه قد تجعل بعض الأبناء يفكرون في الانتحار أفضل من مواجهة الأسرة
ولا تكترث بعض الأسر في مصر بخطورة عدم تهيئة الأبناء مبكرا لتجاوز الإخفاق الدراسي، والتعامل معه بهدوء وحكمة وثقة بالنفس، والتعود على أن الفشل قد يؤسس لنجاح في المستقبل، والكثير ممن تعرضوا لانتكاسات تعليمية استطاعوا تحقيق أحلامهم وامتلكوا العزيمة والإصرار ولم يراودهم اليأس والاستسلام للفشل.
يرى متخصصون في العلاقات الأسرية بالقاهرة أن الابن الذي يتربى في أجواء أسرية غير متشددة في التعامل مع الإخفاق ينشأ على أنه من علامات النجاح لاحقا وبداية حقيقية في طريق الإنجاز، أما التربية القائمة على الترهيب أو التحفيز المبالغ فيه فقد تجعل بعض الأبناء يفكرون في الانتحار أفضل من مواجهة الأسرة عندما لا يتحصلون على الدرجات التي يطمح إليها الوالدان.
ويوجد مراهقون يراودهم الإحساس بالتوتر طوال الوقت خوفا على مستقبلهم الذي رسمته لهم الأسرة، ولا يتقبلون الفشل الدراسي مهما كانت الظروف المحيطة. ومشكلة هذه الفئة أنها تتعامل مع الإخفاق الأول للأبناء على أنه خسارة للمستقبل، وعندما تنتقل تلك الثقافة إلى الأبناء يشعر بعضهم بأنه لا قيمة للحياة بعد ذلك.
وتزداد المشكلة تعقيدا مع تصاعد حدة الضغوط الأسرية، وتظهر مقارنات بين مستوى الابن وأبناء الجيران والأقارب والأصدقاء من المتفوقين باستمرار، مقابل نعت الابن بعبارات قاسية، ما يؤدي إلى الشعور بالفشل والخطر عندما يتم تحميله مسؤولية تحسين ظروف المحيطين به مثل الأسرة عبر التفوق الدراسي، وهو عاجز عن فعل ذلك.
ويتفق خبراء في علم النفس التربوي على أن تشجيع الأبناء على تجاوز الفشل الدراسي يجنبهم التفكير في الانتقام، ولا قيمة للتهديد والوعيد والعقاب، لأن هذه التصرفات الأبوية يمكن أن تجلب نتائج عكسية للأسرة برمتها، مقابل إيجابيات المساندة التي تُعطي الدافع لإعادة بناء الثقة للأبناء من أجل رد الجميل لأسرهم التي دعمتهم وقت الإخفاق.
وكان محمد حمدي، وهو أب مصري لطالبة حصلت على مجموع منخفض في البكالوريا العام الماضي، حكيما في التعامل مع ابنته عندما جلس معها وأقنعها بأن الإخفاق ليس خيارا ومن لا يفشل لن يصل إلى مراده، طالما استوعب دروس فشله، وقص عليها نماذج لشخصيات عامة نجحت وأصبحت لامعة، في حين أنها فشلت في بدايات حياتها ولم تستسلم ومضت في طريقها.
قال الأب لـ“العرب” إن ابنته كانت تحلم بكلية الطب، وتعرضت لصدمة بعد حصولها على درجات منخفضة تلحقها بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وراوده الخوف من أن تُقدم ابنته على الانتحار أو إلحاق الأذى بنفسها أو الهروب من المنزل، وسارع بالحديث معها معربا عن فخره بمجهودها، وأقنعها بأن الهزيمة مهمة (الدرجات المنخفضة) كي يعرف كل إنسان كيف ينجح.
وأفاد الأب بأن ابنته التحقت بكلية الحقوق واستطاعت في العام الأول أن تحتل المرتبة الأولى بين زملائها وتتفوق عليهم، مع أنها كانت تعاني من تبعات الشعور بالعجز عن استكمال التعليم، ما يعني أن نجاح الأبناء بتفوق بعد الفشل يبدأ من الأسرة أولا، بمساعدتهم على تجاوز الإخفاق وتحويله إلى نجاح مستدام.
يقود ذلك إلى أن الأسرة إذا تعاملت مع الأبناء وقت الإخفاقات الحياتية برفق ودعم واحتواء، فسوف تجنبهم التعرض لانتكاسات نفسية، خاصة عندما يشعر الابن (أو الابنة) بأنه لم يكن يستحق ما أنفقته عليه عائلته من أموال، وتحملت مصاعب الحياة من أجل أن تراه شخصا ناجحا، أما إذا شعر بالطمأنينة من قبل أسرته وقبلت الفشل مؤقتا، فإنه يخرج من كبوته ولديه عزيمة قوية على النجاح.
بعض الأسر في مصر لا تكترث بخطورة عدم تهيئة الأبناء مبكرا لتجاوز الإخفاق الدراسي، والتعامل معه بهدوء وحكمة
وأكد استشاري الصحة النفسية وتقويم السلوك في القاهرة جمال فرويز أن مشكلة الكثير من الأسر تكمن في تعاملها مع الإخفاق الدراسي بطريقة متهورة، والنظر إلى الإخفاق على أنه نهاية المطاف من دون المبادرة بتثقيف الأولاد بقيمة النجاح بعد الفشل، وهذا يرجع إلى تهاوي الوعي لدى بعض الأسر تجاه الشهادة التعليمية في الوقت الراهن.
وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن الأذى النفسي من الأبناء بحق أنفسهم عقب الإخفاق الدراسي سببه الأسرة، فليس مطلوبا من الأبوين تقديم التحفيز الزائد عن الحد، أو انتظار الابن كي ينتشل الأسرة من أزماتها بتحقيق التفوق، فعندما يشعر أنه سيفشل في تحقيق طموحاتها سيفكر جديا في تجاوز الضغط بالهروب أو الأذى النفسي.
وأشار إلى وجود شريحة من الآباء الذين لا يستوعبون الفروق في المستويات التعليمية بين الأبناء داخل الأسرة الواحدة، ويعقدون دائما مقارنات بينهم وزملائهم وأقاربهم، مع أن لكل منهم قدرات مهما حاول الشخص تطويرها لن يصل إلى المكانة التي ترضي طموحات الأسرة، ومع استمرار تلك المقارنات بلا توعية بأن الفشل سوف يعقبه نجاح، تحدث أزمات نفسية مركبة.
وغالبا ما يكون تحفيز الأبناء بدافع عفوي لتأمين مستقبلهم، لكن إذا لم يحدث ذلك بحسابات دقيقة يتحول التحفيز لأداة ضغط تقود إلى اقتناع بالفشل، ولو كان الابن متفوقا، ما يدفعه إلى تبني العنف وتوجيهه إلى صدره، وقد يفكر في معاقبة نفسه.
وتظل المشكلة الأبرز في بعض المجتمعات العربية أن هناك الكثير من الأسر التي تتحكم في اختيار نوعية التعليم لأولادها من دون مراعاة رغباتهم الشخصية، ما يضيف إليهم أعباء نفسية نتيجة الشعور بضرورة الاجتهاد والتميز الدراسي لإرضاء آبائهم وليس لتحقيق أحلامهم، وعندما يفشلون يشعرون بخيبة أمل قد تدفعهم إلى الانسحاب من المجتمع بالانتقام.