تفاقم ظاهرة هجرة الأدمغة يلقي بتداعياته على الوضع العام في تونس

تتزايد تحذيرات الخبراء من مخاطر هجرة الكفاءات والأدمغة التونسية إلى الخارج واستنزافها للثروة البشرية النوعية، خصوصا في مجالات الطب والهندسة والتكنولوجيا، وهو ما فاقمته الأزمات الاجتماعية والاقتصادية للتونسيين الذين يتطلعون إلى تحسين مستواهم المعيشي والمادي بالأساس.
تونس - أثارت أرقام استطلاعات الرأي بشأن تزايد أعداد هجرة الأدمغة في تونس وتداعياتها على الوضع العام في البلاد تساؤلات المراقبين بشأن حقيقة مخاوف السلطات من تفاقم الظاهرة وسبل التصدي لها.
ويجمع الباحثون والمتخصصون في تونس على تزايد هجرة الأدمغة وما يمثله ذلك من هدر للثروة البشرية في بعض التخصصات المطلوبة.
ويقولون إن تونس تعاني في السنوات الأخيرة من استفحال الظاهرة بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها البلاد بعد 2011، وما شهدته من تداعيات بسبب جائحة كورونا العالمية.
ووفق أرقام رسمية، بلغ عدد الكفاءات التونسية المنتدبة في الخارج عن طريق الوكالة التونسية للتعاون الفني على امتداد سنة 2022 نحو 3500 منتدب، أي بزيادة نسبتها 41 في المئة مقارنة بسنة 2021.
وتصدر قطاع الصحة قائمة الانتدابات بـ1250 كادرا طبيا وشبه طبي أي ما يعادل 36 في المئة من مجموع الانتدابات، يليه قطاع التربية والتعليم بـ862 منتدبا، ثم قطاع الهندسة بـ562 منتدبا و280 في مجال الإعلامية.
وبلغ عدد المنتدبين عن طريق التعاون الفني منذ بداية العام الجاري أكثر من 22 ألف تونسي.
وقال رئيس مؤسسة استطلاع الآراء “سيغما كونساي” حسن الزرقوني في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، تعليقا على المعطيات، إن تونس تعرف اليوم تفاقم ظاهرة هجرة الأدمغة إلى دول أوروبية وخليجية بطريقة شرعية، الأمر الذي ستكون له تداعيات سلبية على الوضع العام بالبلاد.
وأكد أن “حوالي 75 في المئة من الشباب بين 18 و30 عاما مستعدون للهجرة إذا أتيحت لهم الفرصة”، مشيرا إلى أنه “لأول مرة في تاريخ تونس، سجلنا خلال السنة الماضية هجرة حوالي 1200 طبيب، من بينهم عدد كبير من أخصائيي أمراض القلب، وهو ما يمثل خطرا على صحة المرضى بالبلاد”.
وحذر الزرقوني من أنه ”إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإننا قد نصل إلى مرحلة لن نجد فيها طبيبا يعالجنا أو مهندسا يحل إشكالا كبيرا في البنية التحتية أو شبكات الاتصال”، لافتا إلى أن ”هناك نهبا منهجيا للكفاءات التونسية لاسيما في قطاع الهندسة (قطاع تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية) من طرف الشركات العالمية في البلدان المتقدمة صناعيا”.
ووفق إحصاءات رسمية أصدرها مؤخرا المعهد الوطني للإحصاء، فإن معدل المهندسين بتونس على سبيل المثال والذين يغادرون للعمل في الخارج يبلغ سنويا نحو 6500 مهندس.
ويتوزع تشغيل المهندسين في تونس بين 4 آلاف في الوظيفة العمومية و12 ألفا في المؤسسات العمومية و64 ألفا في القطاع الخاص، في حين يوجد حوالي 8 آلاف مهندس جديد كل سنة 45 في المئة منهم إناث.
ويتّجه قرابة 2500 مهندس سنويا نحو بلدان أوروبا والخليج العربي، حسب إحصائيات عمادة المهندسين التونسيين.
واعتبر الزرقوني أن كل العوامل ستكون لها تداعيات على البنية التحتية والتنمية الاقتصادية في المجالات ذات القيمة المضافة العالية بالبلاد.
وساهم تدني مستوى الأجور، واستفحال البطالة، وتعطل منظومة تشغيل خريجي التعليم العالي، والاختلال بين ما توفره الجامعات من شهادات علمية في بعض الاختصاصات وبين ما تطلبه سوق الشغل من حاجيات في تفاقم هجرة الأدمغة.
ومنذ العام 2011، باتت الهجرة الشرعية، وخصوصا نحو أوروبا والخليج، للأطباء والمهندسين والتقنيين والأساتذة، وكذلك الهجرة غير الشرعية للفئات الأكثر هشاشة أفضل حل لهؤلاء.
وأفاد وزير الاقتصاد والتخطيط السابق فوزي بن عبدالرحمن أن “الهجرة تمسّ ما بين 35 و40 ألف مواطن تونسي من مختلف الأعمار والمستويات التعليمية سنويا”، لافتا إلى أن “تونس في حاجة إلى الأطباء والمهندسين، لكن المشغل رقم واحد لهم هي الدولة”.
وقال في تصريح لـ”العرب” إن “هناك ما بين 55 و60 ألفا من أصحاب الشهائد العليا يغادرون البلاد سنويا بسبب عدم وجود شغل، والدولة منعت التوظيف في القطاع العام، وهنا توجد مخاطر حقيقية لأن الدولة في حاجة إلى الأطباء والمهندسين ولكنه اختيارها”.
ولفت بن عبدالرحمن إلى أن “التنظيم الإداري للدولة التونسية ومحدودية الرؤية في الموارد البشرية عمّقا هذه الظاهرة، فمثلا زاد عدد العاطلين عن العمل من أصحاب الشهائد العليا في تونس من 25 ألفا سنة 2009 إلى 250 ألفا سنة 2019، وكل سنة هناك 25 ألفا يحصلون على شهائد جامعية ولا يجدون عملا”.
واعتبر أن “هذه ثروة بشرية مهدورة، لكن مناخ العمل في تونس لا يساعد على استيعابها وأسباب الخروج ليست مادية بالأساس بل يوجد أيضا تفاوت جهوي في البنية التحتية والمستوى الاقتصادي والاجتماعي”.
ويقول مراقبون إن هجرة اليد العاملة التونسية إلى الخارج بدأت تبرز انطلاقا من سنة 2000 خصوصا في قطاعات التربية والصحة والإدارة، وتزايدت بشكل لافت بعد 2011 بسبب عدم الاستقرار السياسي في البلاد.
وحسب أرقام للبنك المركزي التونسي، بلغ تحويل التونسيين بالخارج في سنة 2022 نحو 9.5 مليار دينار (3 مليارات دولار)، مقابل 3.5 مليار دينار(1.11 مليار دولار) في سنة 2000.
وأكد الخبير في الصحة الدكتور سهيّل العلويني أن “السوق الخارجية كثيرا ما تطلب الكفاءات التونسية نظرا إلى مستوى تكوينها الجيّد، ورغبتها في تحسين مستواها المعيشي والمادي”.
وأوضح لـ”العرب” أن “عدد الأطباء الذين ينشطون خارج تونس حاليا في حدود 3000 طبيب، ومنهم من يعمل لمدة معينة بين 3 و5 سنوات ثم يعود إلى تونس، والبلاد اليوم في حاجة إلى كفاءاتها في مختلف التخصصات”.
وتابع العلويني “لا بدّ من إجراء نقاشات حول هذه الظاهرة ومن أولوية تونس أن تستفيد من كفاءاتها وخبراتها”، قائلا “حريّة التنقل مكفولة دستوريا، ولكن يجب البحث عن حلول اقتصادية واجتماعية، كما أن الدولة اليوم مطالبة بوضع إستراتيجية واضحة تحول دون خسارتها لكفاءاتها”.
وتؤكد أرقام الوكالة التونسية للتعاون الفني أن كندا اليوم تعد الأولى من مجموع البلدان المستقطبة للكفاءات التونسية، ولاسيما في مجالات الطب والتعليم والإعلام، ثم ألمانيا ودول الخليج والولايات المتحدة وبعض بلدان أفريقيا.