تشكيلي لبناني يرسم معالم سديمية لذاكرته الشخصية

بيروت – بعنوان “الحق في أن تحلم” قدّم التشكيلي اللبناني المقيم في كندا هانيبال سروجي في قاعة “جانين ربيز” البيروتية نصه كمن يريد أن يُكرس نظرية مؤرخ الدين الروماني ميرسيا الياد، وهي نظرية أو “أسطورة العودة الخالدة” التي تشير إلى مكانة الرمز المؤسسة لفكر الإنسان، ولكن بأسلوبه الفني الخاص والمبني على منطقه وأهدافه الخاصة.
وأساس فكرة “العودة الخالدة” الإصرار على إمكانية الإنسان بأن يكون مواكبا لتحوّلات عصره، ولكن مع الإبقاء على اتصاله مع ما يمكن تسميته بـ”القناعات الروحية” السحيقة.
أما كيف ترتبط فكرة ميرسيا الياد، هذه بفن هانيبال سروجي لا سيما في معرضه الأخير، فمن خلال هذا الإيمان، هذه القناعة الروحية بوجوب العودة إلى طفولة الحياة وخفتها وضبابيتها وضرورة الاستنباط من الماضي الحد الأدنى من الفرح وسوقه إلى المستقبل.
كما أن هذا السوق الذي يقيمه الفنان في مجمل لوحاته وليس فقط في هذا المعرض، يجعل من سروجي قارئا وضابطا لمناخ جوي عام يستدعيه ويُمكنه من توليد وتكشيح غيومه وضبابه الملون إلى الأمام بعيدا عن عوالم نفسية وروحية منفتحة على ملوثات الماضي ومثقلة بما حصدت من اختبارات مؤلمة.
ويمكن أن نرى في عمل سروجي من ناحية ثانية، إيمانا كبيرا بالإنسانية في ظل كل الأقاويل والدراسات على السواء التي تنذر (أو تبشر للبعض) بزوالها، كما هناك رغبة قوية في تفعيل الطوق إلى ما يُسمى بـ”السلام العالمي” حتى لو بدت هذه الرغبة بالنسبة للأغلبية الساحقة من البشر ضربا من ضروب المثالية.
ويضخ الفنان في أعماله أشكالا متحولة تذكر بالأزهار وبراعمها وجميع العناصر الطبيعية دائمة التحوّل التي ترمز إلى الطبيعة الإنسانية وسط متغيرات سياسية وجغرافية وزمنية.
وتبدو الأزهار شبيهة في أكثريتها بأزهار القطن البديعة التي بدورها تبدو في مواضع كثيرة من لوحاته وكأنها أوشام دقيقة تتقشر بفعل مرور الزمن، لتبدو من خلفها مسامات برّاقة ترد مشاهدها إلى فكرة ضرورة تحفيز آلية تنفس الصعداء، كما تزخر لوحاته بما يشبه بنثار رطوبة مكثفة حملتها الغيوم طويلا قبل أن تنهمر بألوانها الباستيلية لتريح الروح والنظر.
كل ما هو في لوحات هانيبال سروجي ضوء، وماء، وهواء، عناصر لا يمكن القبض عليها إلا نظريا، هيئات متدفقة وعابرة لزمن اللوحة ولمحدودية المكان الذي لا يؤطره شكل وقياس “الكانفاس”.
ويستحيل بوجود وتفاعل هذه العناصر الطبيعية الإتصال بأي فكرة واضحة عبرت مخيلة الفنان أثناء تنفيذ العمل، إلاّ في شكل شذرات خاطفة، يستحيل الاتصال بها، لأن الاستطراد حالة ممنوعة في لوحاته ولا مكان لها لأن تحلّ وتؤثث كيانه، فلوحاته.
كل ما في أعماله عابر لا يخلو من مسحة حزن واضحة جدا لا يدعها الفنان تستقر حد أن تتكثّف، فيغمّق لونها وتثقل موازينها وأحجامها في نفسه وفي نفس كل من وقف متأملا في المدى الرقيق الذي ينفتح في لوحاته حقولا تلي حقولا.
كيف للألم أن يستقر في اللوحة، وهذا التواطؤ بين الماء والهواء والضوء قادر على جرف وبصمت مطلق كل شيء في طريقه، حتى القاتل والضحية؟
ويعتبر هانيبال أن للبنانيين، الحق في الحلم، والحلم بالنسبة له ليس هروبا من الواقع ولا هو هذيان على هامش الحياة، بل يعتقد أن الإنسان في لبنان تخطى مرحلة الجرح المفتوح ووصل إلى هدوء ما بعد العاصفة، هدوء يود لو يغفو على متنه لبرهة من الزمن كي يستطيع أن يصحو بالكامل وينظر أمامه دون أن يرى ماضيه جاثما أمامه.
زائر المعرض سيستمتع برؤية كيف لا يكف الضوء عن أن يتبدل في تجلياته من العميق إلى المنتشر إلى المكتوم حتى أصبحت لوحاته تجسيدا لأمواج ملونة تحمل القدر “الصحي” من القلق لكي ترفض اجترار وتقليد ما قبلها، لذلك سيشعر الزائر أنه يشاهد فيلما قوامه الحركة المتواصلة وليس مجموعة من اللوحات التي عكف هانيبال سروجي على إضافة ضوء نيون ملون على بعضها، ما إن ينيره حتى تتبدل أجواء اللوحة، أو تزداد في تعبيرها عن مناخ ما سيختفي حتما ما إن نطفئ الضوء.