تشكيليون يشهدون على العصر ويكتشفون خفايا الإنسان

القاهرة - تبدو قاعة العرض أحيانا أرحب من حيزها المحدود، عندما تمتلئ بلوحات تثور على أطرها، ومجسّمات تستعمر الفراغ المحيط بها. هكذا، بتجاربه الثرية ورؤاه العميقة الواسعة، يحلّق معرض “مختارات عربية” الجماعي، المنعقد حاليا بالقاهرة، في مدارات تخييلية بعيدة، بأجنحة نخبة من التشكيليين الذين يتصالحون مع الحياة ويختصرون الوجود ويسجّلون شهادات قيّمة على العصر.
لا ينشغل المعرض الجماعي، المقام على مدار الصيف الجاري في “أتيليه العرب للثقافة والفنون” بالقاهرة، بالالتفاف حول ثيمة بعينها، أو تصدير موتيفة دون غيرها، أو الانتصار لتيار فني أو لون إبداعي محدد، لكنه يقترح مساحة حرة تلتقي فيها الأجيال من ذوي اللمسات المرموقة المؤثرة، من فناني الصف الأول.
هناك مستويان من الانتقاء في معرض “مختارات عربية”؛ الأول: لانتخاب أسماء الفنانين المشاركين، والثاني: لاختيار عدد محدود من الأعمال لكل فنان، بوصف هذه الأعمال هي الأقدر على تمثيل التجربة بملامحها وخصوصيتها وعناصرها الفارقة.
بعض هؤلاء الفنانين أقيمت لهم معارض منفردة أو جماعية من قبل، في المكان ذاته، مثلما يوضح الفنان هشام قنديل رئيس مجلس إدارة أتيليه العرب للثقافة والفنون (ضيّ) في تصريحات لـ”العرب”، أن بعضهم اختيرت أعماله مباشرة من أجل المعرض المقام حاليا، وهو من أطول المعارض، على المستوى الزمني، مثلما أنه الأكبر، من حيث عدد الفنانين المشاركين.
ما يمكن أن يعتبره مُشَاهِد معرض المختارات نقطة التقاء بين التشكيليين البارزين المشاركين، هو إدلاء كل فنان بدلوه من أجل تقديم شهادة على العصر، وفق ذلك التناغم، في معرض الاختلاف والاتساق في آن واحد، يمكن أن تتجاور أسماء تشكيليين متميزين من أجيال مختلفة، موزونة أقدارهم بميزان الذهب الحسّاس، حيث تسهب الألوان في صخبها وحيويتها، ويتمادى النحت في مطوّلاته السردية الحكائية، ويعثر الإنسان على ذاته الضالة.
يقدم المخضرم جورج البهجوري (86 عاما) في المعرض الجماعي لوحة تمثل مدرسته الفريدة في المزج بين التصوير والكاريكاتير، لتكون للسخرية كلمة البطولة في التعبير عن عصر المتناقضات والأحلام الزائفة، وتبقى البشرية المتصدعة متعطشة إلى طينتها الأولى وصلصالها النيئ وخميرتها الرائقة.
نخبة من التشكيليين يقدمون شهاداتهم على العصر في معرض جماعي بلغة الألوان الصاخبة وخامات النحت المتمردة
ويحضر الفنان مصطفى الفقي (80 عاما)، ببصمته الملموسة كواحد من أبرز مصوّري الرعيل الثاني المشغولين بذاكرة المكان، إذ تفيض لوحته الواقعية المعروضة بالنفحات الصوفية والتجليات الروحانية، ويعج مشهد القطار الذي يجسده بملامح الناس الشعبيين البسطاء وسمات الحياة المصرية، التي تفرض وجودها على الوجود، ليكون الزمان والمكان مصريين بدورهما.
ويستدعي المصور علي سعيد عناصر التراث السحرية والأسطورية، مستلهما الإسكندرية القديمة لقراءة الحاضر بأسلوب معاصر، ولا تغيب عن أعماله “وجوه الفيوم” والأيقونات العقائدية والدينية المستوحاة من مصر القديمة، وتشكل الرموز النسوية والكائنات الحية من أشجار وطيور وحيوانات أبرز مفردات التخليق الدرامي في حكايات التاريخ والسير الشعبية، وتبدو شهادة الفنان على العصر موصولة بحديث الماضي المزدهر.
وإلى منابع النيل يعود الفنان السيد عبده سليم (66 عاما)، كي يكتشف مصر من جديد أو “هبة النيل” بتعبير “هيرودوت”، وتتخلق الحياة من وهج الخصوبة الخارقة، وتأتي هذه الحياة في كل العصور التي يشهد عليها الفنان ترجمة أمينة لمعاني الأنوثة في النساء والنخيل والكائنات. ويستطرد الفنان في قراءة التفاصيل اليومية في الريف، حيث تسود الحركة والحيوية والتفاؤل على ضفاف النهر المتدفق.
ويوسّع الفنان أيمن السمري (53 عاما) دائرة التعامل مع البورتريه، فهو لا ينقل ملامح وقسمات بقدر ما يؤرخ لتاريخ البشر وجغرافيا المكان، فشهادته على العصر هي قراءته الخاصة للوجوه والقلوب، من خلال تشريح أبعادها البدائية وتحليلها إلى عناصرها الأولية، وتحيل هذه المقومات الإنسانية البريئة إلى بساطة الأرض وطيبتها وفيضها.
ويقيم الفنان صلاح المليجي (61 عاما) هندسته اللونية والبنائية المحكمة مستفيدا من خبرته في تقنيات الحفر والطباعة والجرافيك، وتتلاقى الموجودات وتتلاقح في فضاء العصر المفتوح اللامحدود، فبإمكان البحـر أن يخترع سماء، وبمقدور السماء أن تقترح بحرا، وتعزف الطيور الملونة بمناقيرها على أوتار المشاعر الإنسانية، كما تنبت للبشر أجنحة الحرية والتحليق.
ويتكئ الفنان إبراهيم عبدالمغني (67 عاما) على رمزية الهرم وجدلية الزمان والمكان، قارئا بالعدسة المجهرية ما يخفى من أسرار الحضارة المصرية القديمة في أزمنة ولت، باعتبارها مفاتيح الدخول إلى العصر الراهن وإعادة صياغته من جديد، وتتماوج ألوان الفنان وتتدرج بين أزرق النيل الخالد وأخضر الأرض الزراعية وبنّيّ الأرض الخصيبة.
في تجربة النحات طارق الكومي، تتمرد خامات النحت على السكون والاستقرار، فتنهض متحركة شامخة، وتستعمر الفراغ المحيط بها. وتتماس التكوينات التي يقدمها الكومي مع أعمال المثّال الرائد محمود مختار، وكلاهما يروّض الكتلة الصلبة مستكنها كوامنها وطاقاتها الداخلية المنفلتة.
ويتعامل النحّاتان محمد نجيب ومعاوية هلال مع الخزف والخشب كوسيطين أكثر بساطة ومرونة في نقل رؤية عميقة تعكس علاقة الإنسان والكائنات الحية بالكون. ويتبادل البشر والمخلوقات الأدوار في الحياة بتلقائية وسلاسة، من خلال علاقات ثنائية تبادلية راسخة.
ويلجأ التشكيلي عصام معروف إلى الأسلوب التتابعي في تصوير متتالياته للإيهام بحركية الوجوه وإحداث تطورات انفعالية وتدفقات شعورية تفيض تباعا من العمل الواحد، لإكساب التكوين أكثر من بُعدٍ بصري ودلالي في نزوع جلي إلى التجسيم.
معرض “مختارات”، حصيلة فنية زاخمة، تستكشف الإنسان من جديد من خلال قراءة العصر، وتعيد توصيف العصر بلمس جوّانيات الإنسان.