تحية إلى الواقع في أعمال التشكيلية اللبنانية هيبات بلعة بواب

نص بصري فنتازي "من وحي الحاضر" يعتمد على تقنية الكولاج.
الجمعة 2023/01/20
شخوص مركبة بتقنية الكولاج

تنطلق الفنانة اللبنانية هيبات بلعة بواب من الحاضر وأشد تفاصيله إثارة لإبداعها وتواصل شغفها في العمل بتقنية الكولاج لإنشاء رسومات وأعمال تشي بموقفها الشخصي من الواقع والعالم والزمن.

افتتحت صالة “آرت أون 56 ستريت” في بيروت معرضا للفنانة التشكيلية اللبنانية هيبات بلعة بواب في الثالث عشر من يناير الجاري ليستمر حتى الرابع من فبراير القادم. ويأتي المعرض تحت عنوان “من وحي الحاضر”.

يحلو لنا أن نطلق على الفنانة التشكيلية اللبنانية هيبات بلعة بواب لقب “سيدة الكولاج”، فما أن يحضر اسم الفنانة حتى يكون مقرونا بفن الكولاج الذي غاصت في عالمه منذ بداية سيرتها الفنية. وتعود تلك البداية إلى ما يقرب 40 سنة من الاحتراف الفني.

أما فن الكولاج الذي يلتبس عند البعض مع فن “الدكوباج” فهو وباختصار شديد يعتمد على قص عدة خامات مختلفة ولصقها معا من قصاصات الجرائد، أجزاء من الورق الملون المصنع يدويا، وأجزاء من أعمال فنية أخرى، أو صور فوتوغرافية في لوحة واحدة. وقد كان له دور مهم في القرن العشرين باعتباره نوعا من أنواع الفن التجريدي.

استخدام أسلوب الكولاج يشي بموقف شخصي تجاه الواقع والعالم وتجاه الزمن أيضا
استخدام أسلوب الكولاج يشي بموقف شخصي تجاه الواقع والعالم وتجاه الزمن أيضا

ومن المعروف لدى أهل الفن أن بابلو بيكاسو أول من استخدم تقنية الكولاج في لوحاته الزيتية لتصبح هذه التقنية بعد ذلك عالما فنيا قائما بذاته. ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الفنان بابلو بيكاسو معروف منذ بداياته الفنية بحبه للاختلاف والتجريب في الأساليب والمواد الفنية ويكاد يكون هذا الفنان من أطلق شعار المُغايرة لأجل ذاتها قبل أن يلحق به العديد من الفنانين وتنبثق من منطقه الخاص مختلف التيارات الفنية.

أما استخدام أسلوب الكولاج حدّ تبنّيه المُطلق عند الفنانة اللبنانية هيبات بلعة بواب فله خلفية مختلفة جدا إذ يشي بموقف شخصي تجاه الواقع والعالم وتجاه الزمن أيضا. لأجل ذلك ربما نجد أعمالها لاسيما تلك التي قدمتها منذ بداية الألفية الثانية إلى اليوم شديدة المعاصرة من حيث الاندماج لا بل حين تتحد الأفكار المجسدة في الأعمال مع تقنيات الكولاج المختلفة.

ونقصد بذلك أن منطق الكولاج عند الفنانة وصل إلى درجة من النضج في أعمالها الأخيرة بحيث أصبح الشكل متحدا مع الموضوع وكأنه بات هو الموضوع. البيان الصحافي المرافق للمعرض ذكر أن عمل الفنانة مزيج من “فن الكولاج والرسم بالألوان الزيتية. كما اعتمدت في عملها على تلوين الأوراق ثم قصها ومراكمة الطبقات لتقدم مشاهد غنية تغري المُشاهد وتدفعه إلى تأويل ما يراه”.

ومن المعروف أن الفنانة اشتغلت سابقا لوحات بالألوان الزيتية وأخرى بالألوان المائية، ولكن كل من يرى هذه الأعمال سيدرك من خلال تمعّنه بالتأليف الفني وبمجاورة الأشكال وبروز الألوان في أماكن محددة ومقفلة بأنها فنانة مُشبعة بروحية فن الكولاج. اليوم معرضها الجديد "من وحي الحاضر" مُستقى في العديد من جوانبه من عالم السينوغرافيا حيث المونتاج، أو التوليف بين قصاصات الورق ما أوصل نصّها البصري إلى حافة الفانتازيا دون أن يفقد واقعيته.

معاني تعبر عن حسن رصد للواقع اليومي وتحولاته السريعة
معاني تعبر عن حسن رصد للواقع اليومي وتحولاته السريعة

إن تقنية الكولاج الخاصة بهيبات بواب بلعة والقائمة على القصاصات وكأنها مفردات كلامية أو كتابية ملكت قدرة هائلة على حمل معان تعبر عن حسن رصد للواقع اليومي ولتحولاته السريعة. بناء على ذلك استطاعت الفنانة أن تهندس عالما واقعيا، ولكنه تجريدي في الآن ذاته. عالم مُتحرّك شبيه بشريط مصور "ضغطت" من خلاله الفنانة لحظات وأماكن مختلفة في حيز واحد ومُلتبس في أحواله كما هي تماما أحوال العالم المعاصر.

فلا غرابة في أن تنغمس “سيدة الكولاج” أكثر فأكثر في عالمها الفني المؤلف للأجزاء. عالم هو مرآة صافية تنعكس عليها قناعة الفنانة المتجذرة بحدة وكثرة التنوع في المجتمع اللبناني إن كان من ناحية المشاعر أومن ناحية الأفكار والقناعات التي هي أيضا عرضة لتبدل خاطف "يليق" بمزاج الكولاج، إذا صحّ التعبير، الشغوف بالتفاصيل وبتعدد صيغ الوجود ومجاورة التناقضات حينا وتذويبها حينا آخر وفق رغبة الفنانة.

ومن السهل تخايل الفنانة التشكيلية اللبنانية وهي تنظر إلى أكثر المشاهد اليومية والعادية بعين تفكك الأشكال والألوان والأبعاد لتعيد تشكيلها ليس وفق رؤية جديدة كما عند الكثير من الفنانين، بل وفق التمسك بالواقعية وبالوفاء للمشهد الأصلي.

◙ منطق الكولاج عند الفنانة اللبنانية وصل إلى درجة من النضج في أعمالها الأخيرة بحيث أصبح الشكل متحدا مع الموضوع

أما هذا "المشهد الأصلي" الذي نذكره هنا فهو ليس فقط بمظهره الخارجي المُتماسك، ولكن أيضا بما هو مؤلف منه من شظايا بصرية قامت الفنانة بتقريبها من بعضها البعض لمنع الفراغ بالمعنى الفلكي – الكوني – الفلسفي من التسلل إليها وتشتيتها ولعقد الوصال تفاديا للتلاشي.

ما هو الواقع إذن؟ وما هو التجريد؟ في أعمال الفنانة هيبات بلعة بواب: لا اختلاف بين الاثنين، بل هناك تكامل وتواطؤ. فعلى سبيل المثال تختفي ملامح وجوه شخوص الفنانة ليس لأن المقصود بذلك الغموض أو تجاهل الهوية الفردية من قبل الفنانة، بل لأن وتيرة الزمن وهشاشة الأمكنة قامتا "بمسح" الملامح دون سلبها روحها. عالم الفنانة هو عالم تشيده، تصمّمه، تهندسه على أنه قابل في أيّ لحظة للتفكك، ولكن.. دون أي همرجة درامية.

هي الأمور كما هي في منتهاها. لا داعي لأن نفلسفها. استطاعت الفنانة أن تظهر البشر بشكل عام والشعب اللبناني بشكل خاص، شعب يتلاقى ويتفكك دون أن يتباعد. يتشارك ويترابط بنظم اجتماعية وقتية، ولكن دون همرجة درامية.

يُذكر أن للفنانة هيبات بلعة بواب مشاركات فنية في معارض جماعية عديدة داخل لبنان وخارجه كما لديها عدة معارض فردية وهي حاصلة على جوائز فنية. إضافة إلى احترافها للفن أسست البرنامج الأكاديمي الفني في إحدى جامعات لبنان، كما هي أستاذة في الفن منذ سنة 1977 إلى اليوم.

14