تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى

المكون الحزبي في إسرائيل يعيش هذه الأيام أسوأ مراحل تشكله منذ قيام إسرائيل، ولطالما اعتبر الحضور الحزبي عبّارة تقليص فجوة الخلافات السياسية والأيديولوجية في سبيل تمتين أركان الدولة الوليدة. وكان هنالك حزبان رئيسيان يقودان إسرائيل هما معراخ (همعراخ بمعنى التجمع العمالي) وهو تجمع حزبي إسرائيلي تشكل نتيجة لوحدة حزب العمل الإسرائيلي مع حزب ماباي عام 1969 وأمسك بزمام الحكم فيها حتى عام 1977 وعاد ليفوز عامي 1981 و1984. والحزب الآخر هو الليكود، وهو الحزب الرئيسي في يمين وسط الطيف السياسي بإسرائيل، والمنافس الرئيسي لحزب العمل الإسرائيلي. تم تأسيسه عام 1973 عندما اندمج حزب حيروت والحزب الليبرالي الإسرائيليين في تكتل الليكود.
ومع وجود أحزاب دينية مثل شاس والمفدال وغيرها من الأحزاب التي لم ترق إلى درجة تمكنها من الحصول على مقاعد كافية في الكنيست تؤهلها للوصول إلى مكانة صنع القرار والتأثير به، بقي هذا الحال حتى الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في أواخر عام 2022، حيث تم تشكيل حكومة يمينية متطرفة ضمت أحزابا هي الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل. وتتهم هذه الحكومة بأنها هي التي تسببت في أحداث 7 أكتوبر وما آل إليه الوضع الأمني، ومع كل هذا الاتهامات ما زالت حكومة اليمين المنتخبة تدّعي بأنها من أفضل الحكومات في تاريخ إسرائيل.
لو نظرنا إلى الخارطة السياسية اليوم سوف نجد فجوة عميقة بين مكونات السياسة الإسرائيلية يصعب جسرها نتيجة الاختلاف الأيديولوجي العميق وصعوبة الدمج بين فلسفة هذا الحزب وذاك، فكل حزب منها يدّعي أنه صاحب الرصاصة الأولى وصاحب اليد الطولى في تأسيس الدولة، كما أن كسب العالم برمته إلى جانب إسرائيل هو من نتاج الأدباء المؤسسين. هذا فضلا عن الطرح السياسي وتقبل الآخر، وأقصد هنا الشعب الفلسطيني.
◙ النخب الإسرائيلية ظلت حتى وقت قريب تنظر إلى بعضها بالشك والريبة، وهو ما أضعف موقفها لتحقيق وحدة وجود إسرائيل كدولة قوية تهيمن على دول الجوار
يقول أصحاب الفكر اليميني الديني المتطرف إن لا وجود لشعب آخر (الشعب الفلسطيني) على هذه الأرض على الإطلاق، وتعتبر مرحلة وجوده قد انتهت وحان الوقت الآن لتهجيره، ولديه فرصة قبل فوات الأوان للخروج بشكل طوعي. وهي مرحلة تبدو مقدمة لمرحلة تالية، وهي حسب ما رشح منهم من تصريحات، التهجير القسري بالقوة، كما سبق أن فعلوا في فترة النكبة عام 1948، بمعنى أن هناك تدرجا في خطة ترانسفير مخطط لها سلفا.
في المقابل نلمس مرونة في الطرح من قبل اليمين العلماني واليسار، لم يطرق هؤلاء أبواب الهجرة القسرية، ولديهم مخطط يتمثل في دولة منزوعة السيادة على أجزاء من الضفة الغربية دون غزة؛ بمعنى دولة ليس لها عمق إستراتيجي، غير متواصلة جغرافياً، والقدس خارج التسوية، وعودة اللاجئين غير واردة في أيّ اتفاق مع القيادة الفلسطينية، والمنطقة الشرقية للضفة الغربية وهي منطقة الأغوار تبقى تحت السيادة الإسرائيلية.
من خلال هذا يستشف أن جميع الأطراف الإسرائيلية متفقة على لا دولة فلسطينية بمفهومها الفلسفي. ولكن طريقة إدارة معركة التفاوض مع الفلسطينيين تختلف من حزب إلى آخر. فقبل وصول اليمين إلى الحكومة كانت ثمة مراوغة وتمثيل على العالم لكسب الوقت، وخلال تلك الفترة حصلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على ما تصبو إليه، وهو السيطرة على الكثير من الأراضي ومصادرتها وبناء المستوطنات عليها.
نجد اليوم من خلال تتبع مجرى الأحداث وما يجري في قطاع غزة اختلافا في وجهات النظر بين أقطاب السياسة في إسرائيل على المستويين العسكري والسياسي، فرغم تشكيل حكومة حرب من المعارضة ما زالت الشحناء سيدة الموقف.
من طرفه يهدد بيني غانتس بالرحيل عن حكومة الحرب، ويطالب حزب العمل صاحب التمثيل الضئيل في البرلمان بحجب الثقة عن الحكومة، وفي نفس الوقت يطالب بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير بنيامين نتنياهو باستمرار الحرب على غزة وإلا سوف ينسحبا من الحكومة. هذا المشهد يدل على عمق الخلاف بين الأحزاب داخل إسرائيل.
◙ لو نظرنا إلى الخارطة السياسية اليوم سوف نجد فجوة عميقة بين مكونات السياسة الإسرائيلية يصعب جسرها نتيجة الاختلاف الأيديولوجي العميق وصعوبة الدمج بين فلسفة هذا الحزب وذاك
ما أود قوله إن هذه الحرب السياسية والأيديولوجية بين مكونات المجتمع الإسرائيلي ما يربطها هو “الخوف من الآخر”، وإن الحرب الداخلية السياسية سوف تتصاعد في أعقاب الحرب، ويزيدها اشتعالاً أيّ حكم سلبي (ولو كان شكلياً) تجاه إسرائيل يصدر عن محكمة العدل الدولية، خاصة بوجود احتمالات كثيرة ترجّح إجراء تحقيقات داخلية عميقة في كل عناصر الحرب.
بينما ينمو على أرض الواقع الانقسام في المجتمع السياسي الإسرائيلي بين جناحين؛ أولئك الذين يرغبون في إيجاد حل دبلوماسي للقضية الفلسطينية، ويدللون على وجهة نظرهم بأن الضفة الغربية هادئة نسبياً، رغم الحرب الصعبة في غزة، وهو دليل على أن هناك جناحا فلسطينيا يرغب بالحلول السلمية، وجناح آخر يرغب ويعمل على شيطنة الفلسطيني، وأنه ليس هناك أحد من الفلسطينيين ملاكاً، وكلهم شياطين.
النخب الإسرائيلية ظلت حتى وقت قريب تنظر إلى بعضها بالشك والريبة، وهو ما أضعف موقفها لتحقيق وحدة وجود إسرائيل كدولة قوية تهيمن على دول الجوار، فحتمية تصدع النظام الحزبي الإسرائيلي قائمة، وهذا ما نلاحظه في الوقت الراهن.
الخلاصة، ونتيجة لغياب نضج واختمار تيار إبداعي فكري جديد، يقوم بدور الاحتواء وتقديم أطروحة سياسية جديدة مختلفة عما قبل، وقادرة على إقناع العالم بأنها انتظمت في حراك إصلاحي وتجديدي يعيد الأمل في إحياء القضية الفلسطينية، سوف تبقى المنطقة برمتها تحت تعنت اليمين الديني في إسرائيل، وتبقى الأمور تراوح مكانها.