بين الجزائر والبوسنة والهرسك تاريخ مشترك أبطاله منسيون

يظل التاريخ المادّة الأكثر ثراء والتي يستقي منها الأدباء عوالمهم في شتى الأجناس الأدبية، فسبر أغوار الماضي يُتيح للكاتب فهم أبعاد مُشكلات الحاضر وربما مستقبلها، وقد يسهم في كتابة رؤية مغايرة أو موازية للرواية الأصلية الشائعة، وفي جلّ الأحوال هو طريق أمثل يُمكن عبره فهم حقيقة الذات بأبعادها المُختلفة. “العرب” حاورت الروائي الجزائري سعيد خطيبي حول تلك العلاقة بين الأجناس الأدبية وعلم التاريخ.
يعتبر سعيد خطيبي من أهم التجارب الأدبية الجديدة في الجزائر، فهو من مواليد ديسمبر 1984، ولكنه تميز بإصدارات هامة خولت أن يكون له صوته الأدبي الخاص.
تنوعت أعمال الكاتب بين الرواية وأدب الرحلة والترجمة. حيث أصدر عددا من الأعمال الأدبية نذكر من بينها “كتاب الخطايا”، “أربعون عاما في انتظار إيزابيل”، و”حطب سراييفو”. وفي أدب الرحلة صدر له “جنائن الشّرق الملتهبة” عام 2015.
وعلى صعيد التّرجمة صدر له “بعيدا عن نجمة” (أشعار لكاتب ياسين)، “مدار الغياب” (مختارات من القصّة القصيرة الجزائرية المكتوبة بالفرنسية)، كما أسهم في ترجمة موسوعة السّينما الأفريقية.
تاريخ مشترك
في روايته الأحدث “حطب سراييفو” يعود خطيبي إلى أواخر التسعينات من القرن الماضي لمُساءلة الوقائع التاريخية المطمورة؛ يتحدث خطيبي عن الرواية قائلا “ذهبت إلى سراييفو، بحثا عن الجزائريين الذين تاهوا في البلقان، وطمرت سيرهم، ولم نعد نسمع شيئا عنهم. في السّنوات السّبع الماضيّة، ظللت أتردّد بانتظام على تلك المدينة، وتعلّمت اللغة الصّربو-كرواتية، لم تكن في نيّتي كتابة رواية، لكن شيئا فشيئا تراكمت المشاهدات والقصص، ومع الوقت شرعت في تلمّس مدى التّشابه بين تاريخهم وتاريخنا، بين الجزائر والبوسنة والهرسك تاريخ من الدّم والخسارات، والكثير من الحبّ والفرص الضّائعة أيضا”.
ويتابع الكاتب “لم أكن أودّ أن أكتب عن ضحايا ولا جلّادين، الضّحايا وردت أسماؤهم في سجّلات أو على واجهات السّاحات أو لدى مؤسسات. الجلّادون انتهى أمرهم في المحاكم، أردت أن أكتب عن المنسيين، في حربي التّسعينات في الجزائر وسراييفو، عن أولئك الذين عاشوا الحرب من الدّاخل في صمت، في بلدين دون أن ينتبه إليهم أحد، عن يومياتهم بين سخط وخوف وشغف وضحك وقلق، وكذلك انتظار لم يكونوا يعلمون كم سيطول. الرّواية لا تستعيد قطّ وقائع تاريخية، لكنها تعيد تخيّل ذلك الواقع كما كان”.
يكتب خطيبي في أدب الرحلة، وله كتاب بعنوان “جنائن الشرق الملتهبة- رحلة في بلاد الصقالبة”. ويشير في هذا الصدد إلى أن “أدب الرّحلة” في القرنين الماضيين كان، أدبا تحت الطّلب، تعوّدت الإدارات الكولونيالية إرسال كتّاب إلى المنطقة العربية، بغرض تدوين رحلاتهم، وملاحظاتهم الإثنوغرافية والاجتماعية، بقصد الاستفادة منها سياسيا، واليوم صارت العملية عكسية، يُسافر الكاتب العربي خلف الحدود ليس من أجل التّلصّص على حياة شعوب أخرى، بل كي ينظر من خلالها إلى نفسه، ويقول “لن تكتمل صورتنا عن أنفسنا دون أن ننظر إليها من هناك، بعيني الآخر”.
الجزائر بلد شفهي تهيمن عليه الأسطورة والمخيّلة الدّينية، لهذا فالكتابة يجب أن تخلّص الذهنية من الميثولوجيا
يتابع خطيبي “ذلك ما وقفت عليه، خلال رحلاتي في دول الصّقالبة، كنت أتقدّم في الجغرافيا متحسّسا الشّبه والاختلاف بيننا وبينهم، كان يهمّني أن أنظر إليهم من الدّاخل، كي أعرف كيف أنظر إلى نفسي، وإلى الأرض التي جئت منها. أدب الرّحلة هو أدب متعدد التّخصّصات، لا يكفي فيه الشّغف بالكتابة بل أيضا الصّبر والبحث والتّقليب في الحاضر وفي ما مضى، أكثر شيء واجهني، ولعلّه يحصل مع الكثير من الكتّاب العرب غيري، أنّ صورتنا ضبابية في مخيّلتهم، لا يعرفون الشّيء الكثير عنّا، لم نقدم أنفسنا كما ينبغي للآخر. من الخارج، نشعر أن الثّقافة العربية منطوية على نفسها، لا تروّج لنفسها، ولا تصدّر أخبارها. نشعر كما لو أننا نعيش في جزيرة منفصلة عن جيراننا”.
وفي ما يتعلق بحجم الاهتمام العربي الراهن بأدب الرحلة يقول خطيبي “أدب الرّحلة تخصّص قديم في الكتابة العربية، بعد سبات طويل يبدو أنه عاد شيئا فشيئا، مع أن العودة بطيئة، لأسباب سياسية، فالعربي لا يستطيع السّفر بسهولة، لأسباب اقتصادية وأخرى تتعلّق بفرض التأشيرات، لكن ما نلاحظه اليوم أننا أمام أدب رحلة أكثر اتساعا، لا يرتبط فقط بضرورات تنقل الكاتب، بل إن الكاتب هو من يبادر إلى السّفر والاكتشاف ونقل تجربته إلى القارئ. ليس من مهام أدب الرّحلة أن يوفّر وثيقة أو دراسة، بل هو نصّ جمالي، قبل كلّ شيء، لكنه يمتلك هامشا يتحرّك فيه، وقد ينوب عن السّياسة المتفجرة في الزمن الراهن، من أجل إعادة ترميم صورة العربي في ذهن الآخر”.
هدم الأسوار
يبدو خطيبي شغوفا بالتعرف إلى سير البلدان وتاريخها المنسي والمهمش في أعماله الأدبية بشكل عام، يلفت إلى أن التّاريخ في الجزائر مسيّج بالتّحريم والمنع وقوانين رسميّة، من هناك تأتي وظيفة الكاتب في هدم الأسوار التي تحوّط ذلك التّاريخ، وإعادته إلى مكانه الأصلي، في وضعه على طاولة التّشريح، والتّعامل معه كمادة سردية، دون مغالاة أو تمجيد ودون تعاطف أو ميل إلى طرف على حساب آخر.
ويرى الروائي الجزائري أن الرّواية فعل جمالي، قبل كلّ شيء، لكن الكاتب له سلطة لا يتوفّر عليها غيره، في الدّفع بالأمور نحو المصالحة مع الماضي، ألا نخجل من ماضينا وهزائمنا، وهذا الوضع الذي تعيشه الجزائر حديثا؟ فإلى غاية الثمانينات من القرن الماضي، كانت الجزائر بلدا متعددا، يتعايش فيه المسلم والمسيحي واليهودي، الدّيني واللاديني، وينعم فيها المثلي جنسيا بكامل حريته، والمرأة أيضا كانت حرّة في فعلها وعقلها، لكن الزلزال قلب المعايير كلّها، بعد الهجمة المباغتة التي شنّها الإسلام السّياسي، وأدت إلى حرب أهلية في التسعينات، محت كلّ شيء، وبات علينا اليوم أن نعيد إحياء ذلك الماضي المتنوّع من جديد.
شغلت مسألة البعد الذاتي في العمل الأدبي الكُتّاب بصورة متواصلة، فهناك من يرى أن حضور الأفق الذاتي للكاتب في عمله نوعٌ من الانعزال عن قضايا مجتمعه، بينما يرى آخرون أن ذات الكاتب بالضرورة متماسّة مع المجتمع وقضاياه. هنا يرى خطيبي أن الكاتب ليس عنصرا محايدا، إنّه مواطن قبل كلّ شيء، حين يكتب عن نفسه، فهو يكتب عن غيره، منذ أن يأتي الإنسان العربي إلى الحياة يجد في مقابلته سلسلة من التّجارب والصّدامات، إنه جزء من المعركة التي يخوضها مجتمعه، لذلك لا تخلو أي كتابة معاصرة من الذّاتية، ليس بشكل سيرذاتي، بل في مقاسمة الآخرين مشاقّ عيشهم.
يمتلك كل كاتب تصورا عن أهمية الكتابة ودورها سواء بالنسبة إليه أو المجتمع أو العالم بشكل شامل، واختلاف التصور يصبغ كل عمل بصبغة خاصة. ويتحدث خطيبي عن تصوره الخاص قائلا “لا يخفى على أحد أن الجزائر بلد شفهي بامتياز، تهيمن عليه الأسطورة وانضافت إليها، من حوالي عقدين، المخيّلة الدّينية، لهذا تصير الكتابة فعلا مشروعا في استعادة الذّاكرة وتخليص الذّهنية السّائدة من الميثولوجيا، ومن العنف الذي ولّدته تلك الأساطير. الكتابة هي التي تحمينا من النّسيان. ليست مهمة الكاتب إعادة تدوين ما يرى أو يسمع، بل عليه اختلاق العالم”.
ويختم خطيبي حديثه قائلا “أفكّر في الكتابة دائما، وليس في ما بعدها. أظنّ أن الكتابة هي سبيلنا إلى الخلاص، إلى الحريّة. هي عيننا التي نرى بها، والـ‘جي.بي.أس‘ الذي نتبع. الكتابة هي أيضا طريقة كي نُعارض أنفسنا، كي ننقد أنفسنا، ونتخطّى خوفنا من العالم الذي نعيش فيه. الكتابة هي باب
العزلة والانتفاء، الكتابة تجربة عاشقة أيضا”.