بيروت تستعيد ذكرى خليل رعد وصورا من الحياة في فلسطين

الصورة الفوتوغرافية المُضاعفة في صالة مركز الدراسات الفلسطينية في بيروت.
الأربعاء 2022/09/14
خليل رعد مصور وثّق بعدسته تاريخ بلاده

دمر الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الكثير من تراث فلسطين، وتسبب في إتلاف آلاف الصور واللوحات التشكيلية التي تخلد تاريخ البلاد وتفاصيل الحياة فيها أواخر القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين. لكن ذلك لم يمنع بعض المصورين الفوتوغرافيين أمثال الراحل خليل رعد من التقاط صور نادرة وأرشفتها وحمايته من محاولات التدمير، لتصبح اليوم شاهدة على التاريخ.

في إطار الدورة الثانية لمهرجان بيروت للصورة، وبالتعاون مع معهد الدراسات الفلسطينية، افتتح معرض تكريمي - استيعادي تحت عنوان "فلسطين.. حياة بعيون المصور خليل رعد".

يشمل المعرض صوراً تاريخية من أرشيف المصور الفلسطيني خليل رعد (1854 – 1957)، توثق من خلال صور جمعت بين التوثيق البحت والفنية العالية الأحداث السياسية والحياة اليومية والمشاهد طبيعية من قرى فلسطين ومدنها قبل النكبة وبعدها. ويستمر المعرض حتى 30 سبتمبر الحالي في صالة المعارض في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت.

تنتمي الصور المعروضة إلى في فترة نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ومما لا شك فيه أن رؤية هذه الصور منصوبة على جدران القاعة إلى جانب بعضها البعض هي أشبه برحلة عبر الزمن نحو عالم حيّ يقف شاهدا راسخا أمام كل محاولات طمس الحقائق الدامغة المتعلقة بفلسطين شعبا وأرضا وطبيعة ومؤسسات.

وليس هذا الكلام من قبيل النثر العاطفي اذ حتى أن العديد من الباحثين المعاصرين في تاريخ فلسطين من اليهود اكتشفوا خلال أبحاثهم السرقات التي تقوم بها المؤسسات الإسرائيلية والمكتبات سواء كان كُتُبًا أو صُوَرًا أو حتى تزييف تاريخ الشعب الفلسطيني لاسيما قبل النكبة. يجدر الذكر أن حسّ المصور الأرشيفي، التوثيقي الذي لا يقدر بثمن، دفعه إلى كتابة خلف معظم الصور التاريخ الذي التقط فيه الصورة والمكان وكتب تلك المعلومات القيمة باللغة العربية والإنجليزية على السواء.

رحلة عبر الزمن

لقطات نادرة من الحياة اليومية للفلسطينيين
لقطات نادرة من الحياة اليومية للفلسطينيين

وشاركت مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت دار المصور اللبنانية لتنظيم هذا المعرض دون غيرها من المؤسسات لأنها من المؤسسات التي تعنى بشؤون الذاكرة ليس الذاكرة اللبنانية فقط، ولكن أيضا البلاد المجاورة وأهمها فلسطين.

وذكر صاحبها المصور رمزي حيدر، مدير مهرجان بيروت للصورة الذي كان من أنشط المصورين خلال الحرب اللبنانية، بمناسبة إطلاق هذا المعرض ومن وحي مبادئ مؤسسة الدار "نحن أمام معرضٍ لأولِ عينٍ عربية نستحضرُ من خلالها ذاكرةَ الأمكنة والناس في فلسطين، أو على الأقل أمام واحدٍ من أوائلِ المصورين العرب الذين تتلمذوا على أساتذة التصوير الفوتوغرافي الأرمن في القدس، ومنهم غرابيد كريكوريان أستاذ خليل رعد".

وتابع حيدر قائلا “نعدكم، رغم كل المصاعب بأن نستمرَّ بإقامة هذا المهرجان السنوي، لأهمية تلك اللحظاتِ المخطوفة من العالم التي تتجسدُ عندنا ذاكرةً ومعرفةً وثقافةً ومتعة. فالواقع يزول، وتبقى الصورة شاهداً أميناً، وضوءاً لا ينطفئ!".

◙ في المعرض صور عن الحياة اليومية والعائلية والاجتماعية في المدن والقرى إضافة إلى المواقع الدينية والأثرية

أما هذا الضوء الذي لا ينطفئ فلا شك أن المصورين الذين حفروا بواسطته ذاكرة فلسطين في نص أثيري بصري لا يمكن لمزوّري التاريخ أو الساعين إلى طمسه الإفلات من مواجهته والامتعاض من ظهوره فهو ربما يكون أكثر ما احتاجه الفلسطينيون ولا سيما جيل النكبة وبعيدها الذين عندما أجبروا على مغادرة بيوتهم فعلوا ذلك على جناح السرعة وكان إنقاذ الصور التي تؤرخ وجودهم ليس بأهمية احتضان أولادهم والفرار بهم، لاسيما أن الأكثرية الساحقة منهم اعتقدوا، بسبب ما أشاعته سلطة الاحتلال أنها “مغادرة لبعض الوقت" وليس تهجيرا نهائيا وسلبا كاملا لمنازلهم وأرزاقهم.

كان المصور خليل رعد من أهم وأوائل حماة هذا “الضوء” الذي انتشر بعيدا في العالم أجمع. والناظر إلى الصور المعروضة سيكتشف أن المصور وثق وجوها عديدة من فلسطين. في المعرض صور عن الحياة اليومية والعائلية والاجتماعية في المدن والقرى إضافة إلى المواقع الدينية والأثرية وصور الفلاحين والبيوت والقصور والخانات والمدارس، وتضمّ أيضاً صوراً لشخصيات بارزة وأحداث دينية وعامة. حتى المناظر الطبيعية لم تكن خالية من أهلها، أي الشعب الفلسطيني.

مما ذكره البيان الصحافي المفصل، الذي من الواضح أنه أراد أن يواكب الصور بمعلومات تاريخية كبيرة ليكون لها أثر مضاعف على المُشاهد، أن خليل رعد "مصور فلسطيني، من مواليد بحمدون (لبنان)، عاش في القدس، وأنشأ أستوديو في شارع يافا.

أنقذ معظم أرشيفه في عام النكبة، بفضل شاب إيطالي صديق له، وتحتفظ مؤسسة الدراسات الفلسطينية بالجزء الأكبر من أرشيفه. وأن المرحلة التي أصبح فيها رعد مقرّباً من الدوائر السياسية العثمانية، سهّلت حركته بين المدن والتقاطه المشاهد الاجتماعية، كما أنه كان شاهداً فوتوغرافياً على فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين عام 1917 وصور المباني الحكومية والمؤسسات العثمانية وتحرك الجيش".

أرشيف ضخم

 صور نجت من المُحتل
 صور نجت من المُحتل  

وفي هذا السياق رأى المفكر والكاتب الراحل إدوارد سعيد الذي كان خليل رعد يقوم بتصوير عائلته سنويا أن ما جمعه المصور من صور نجت مما صادره المُحتل كغنائم حرب وما دمره في محاولة محو لذاكرة الفلسطينيين وذاكرة العالم على السواء. وهذا ما كتب عنه في مذكراته للصورة العائلية "فلم يكن أحد يتوقع أن تتحول صور رعد إلى أرشيف ضخم عن حياة الفلسطينيين قبل نكبة عام 1948".

أما بالنسبة إلى بعض الصور الملونة، فيجدر الذكر أن خليل رعد قام بتلوين بعضها بالألوان المائية وقد ذكرت في هذا السياق الفنانة التشكيلية الفلسطينية فيرا تماري "عملت أخته معه في الأستوديو، وكانت تلوّن الصور يدويا بالألوان المائية".

◙ الصور المعروضة تنتمي إلى في فترة نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين

وأشارت تماري إلى صورة صورها خليل رعد لحمالين يحملان بيانو أنها تذكّرها بلوحة الفنان سليمان منصور ‘جمل المحامل’ لرجل مسن يحمل القدس على ظهره، وتؤكد أنه استوحى هذه اللوحة من الصور المبكرة لخليل رعد وغيره ممن صوروا الحمالين في البلدة القديمة".

وتتميز الصور المشهدية الواسعة بألق خاص ويمكن أن نسميها بالصور المضاعفة لأنها تظهر بلقطة واحدة فلسطين أرضا وشعبا وأجواء وعراقة تتمدد إلى أغصان زيتونها وبرتقالها وترابها الغني بتدرجات الوعر والأملس.

كل صورة قدمها المصور خليل رعد إضافة إلى كونها إرثا فنيا هي صورة مُضاعفة، كما هو كل شيء مُضاعف عند الفلسطينيين ويملك روحا هي المقلب الآخر من الحاضر المريض. إنها الروح التي تومض بألقها المؤجل، وليس انبعاثها إلا في حياة ثانية ومختلفة عن الحاضرة. حياة تليق بهم ولهم استمرارية الحق بها.

14