بوادر لعودة التواصل بين تونس وصندوق النقد الدولي

يحل الأسبوع القادم بتونس وفد من صندوق النقد الدولي لإطلاق محادثات مع الجانب التونسي بعد توقف تواصل لأشهر عديدة، في خطوة سيلعب من خلالها كلّ طرف أوراقه الأخيرة بشأن الاتفاق النهائي حول إقراض تونس التي تحتاج مواردها إلى التمويل.
تونس- يستعد وفد من صندوق النقد الدولي لإجراء زيارة إلى تونس مطلع الأسبوع القادم بهدف مراجعة أداء اقتصادها، لكن مراقبين يرجّحون أن تكون الزيارة مؤشرا إيجابيا على عودة المفاوضات بين الطرفين ومعالجة نقاط الاختلاف بعد فترة طويلة من توقف المحادثات.
وتوصلت تونس إلى اتفاق مع صندوق النقد حول قرض بقيمة 1.9 مليار دولار لكنه ظل معلقا منذ نحو عام نتيجة خلاف بشأن نقاط تخص الإصلاحات، ومن بينها أساسا نظام الدعم الحكومي وإصلاح المؤسسات العمومية.
ويقول خبراء إن السلطة التونسية حسّنت شروط التفاوض مع صندوق النقد الدولي دون الكشف عن ذلك علنا، فركّزت في خطابها خلال الفترة الأخيرة على الحفاظ على التوازنات المالية، مع حزمة من الرسائل الموجهة إلى الشعب تدعو إلى التعويل على الذات ورفض التخلي الكلي عن الدعم، لكنّها في المقابل تعمل على تهيئة الظروف وتحسين المؤشرات المالية لاستئناف المفاوضات.
وتجلت تلك الإجراءات في تجنب زيادة نسبة التضخّم، كما بدا واضحا أنها بدأت تعتمد على التقشف في سياستها الرسمية، وهي بوادر ظهرت من خلال الإجراءات الملموسة للحكومة في الفترة الأخيرة.
واعتبر محافظ البنك المركزي مروان العباسي في وقت سابق أنّ الزيارة التي سيقوم بها فريق من صندوق النقد الدولي إلى تونس من الخامس إلى السابع عشر من ديسمبر المقبل تعدّ إشارة إيجابية لتقيم الدليل على إعادة التواصل بين الطرفين.
وأوضح العبّاسي في حوار مع وكالة الأنباء الرسمية في تونس أنّ “هذه الزيارة ستتمّ في إطار المادّة الرابعة للصندوق المتعلقة بمراجعة أداء الاقتصاد التونسي وإصدار تقرير في الغرض”، مضيفا أن “المراجعة على أساس المادة الرابعة تقوم بها كل البلدان الأعضاء في الصندوق، بما في ذلك الاقتصادات القويّة على غرار الولايات المتحدة، ولا تعدّ تونس استثناء خاصة أنّها لم تقم بذلك منذ سنتين”.
كما أشار إلى أنّ “الإصلاحات التي تمّت مناقشتها مع مؤسسة الإقراض الدولية تم تجسيدها وتطبيقها ضمن قانون المالية لسنة 2023، على غرار الترفيع في الأداء على القيمة المضافة للمهن الحرّة”، ملاحظا أنّ “هذه الإصلاحات أدّت إلى تحقيق مردودية على مستوى تحصيل العائدات الجبائية”.
وأوضح العباسي أنّ تونس كانت في أكتوبر 2022، تاريخ حصولها على موافقة الصندوق على برنامج تمويل ممدد بقيمة 1.9 مليار دولار على مستوى الخبراء، في وضع ما بعد أزمة وما سبّبته الحرب الروسية – الأوكرانية من ارتفاع لأسعار المحروقات
والمواد الغذائية على مستوى السوق العالمية. غير أنّه ما بين أكتوبر 2022 وأكتوبر 2023 تقلّص عجز ميزان الدفوعات، فبلغ في نهاية 2022 حوالي 8.6 في المئة ليصل حاليا إلى مستوى 2.1 في المئة، مع توقّع عدم تجاوزه نسبة 4 في المئة في نهاية 2023. وهي نسبة عجز لم تتمكّن البلاد من تحقيقها منذ سنوات.
ويقدم صندوق النقد الدولي حزمة من الشروط مقابل القرض، منها رفع الدعم عن المحروقات والمواد الغذائية الأساسية وتقليص كتلة الأجور في القطاع العام وخصخصة بعض المؤسسات المتعثرة المملوكة للدولة.
وأفاد أستاذ الاقتصاد رضا الشكندالي أن “الصندوق يقوم بزيارات مستمرة لمعرفة تقديرات الاقتصاد، ولكن هناك ثغرة موجودة في ميزانية العام القادم تقدّر بـ10 مليارات دينار (3.23 مليار دولار)، تجعل من التفاوض قائما، وهو ما يطرح تساؤلا حول إمكانية حصول تونس على هذا المبلغ من مصادر أخرى، كما قد يكون هناك توجه نحو مفاوضات جديدة”.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن “الخطاب الرسمي للحكومة التونسية يرتكز على التوازنات المالية، وهو ما يريده صندوق النقد، وبالتالي الطريق ممهّد نحو تسريع المفاوضات مع الصندوق”.
ويرى الشكندالي أنه “بدأ يتوضح وجود خطاب موجه للشعب بالاعتماد على الذات ورفض التخلي الكلي عن الدعم، لكن ما وراء الستار هو تهيئة الظروف وتحسين المؤشرات المالية للذهاب إلى المفاوضات”، لافتا إلى أن “تونس حسّنت شروط التفاوض دون أن تقول ذلك علنا، كما أن ملف الدعم يعالج بطريقة أخرى بالنظر إلى الإتاوات (الضرائب) لتمويل صندوق الدعم، كما قد يكون صندوق النقد الدولي وافق على هذه الطريقة، أو أن تكون الزيارة مبرمجة للتفاوض حول هذه النقطة”.
وتمكّنت تونس من تقليص العجز بفضل تحسّن التصدير على مستوى قطاعات النسيج والملابس والصناعات الميكانيكية وزيت الزيتون، فضلا عن تحسّن أداء قطاع الخدمات وأهمها السياحة وتحويلات التونسيين بالخارج، كما سدّدت البلاد مختلف الفواتير المتعلّقة بشراءاتها وديونها.
وقال المحلل السياسي منذر ثابت إن “الزيارة تحمل بوادر إيجابية وأعتقد أن التطورات القادمة ستكون في اتجاه تمكين تونس من قرض بمبلغ 1.9 مليار دولار، خاصة أن تونس تجنبت الكارثة المالية ولم تكن ضمن السياق اللبناني”.
صندوق النقد الدولي يشترط مقابل القرض رفع الدعم وتقليص كتلة الأجور وخصخصة بعض المؤسسات العمومية
وأكّد لـ”العرب” أن “تونس تجنبت التضخّم برقمين وسجلت موسما استثنائيا في القطاع السياحي، وإجراءات أخرى مقبولة، خصوصا وأن السياسة الرسمية هي التقشف غير المعلن وهي سياسة مرفوضة في مستوى الخطاب، لكن الإجراءات الملموسة للحكومة تؤكد الاعتماد على ذلك”، لافتا إلى أن “الزيارة ستمهد لاتفاق رسمي بين الطرفين، والرئيس سعيد يؤسس لواقع مستقبلي، بينما تفكر الحكومة في الواقع الحالي”.
وتابع ثابت “الحكومة قلّصت الدعم مع تقليص الواردات الذي مكن من توفير مبلغ مالي من العملة الصعبة، وتقلّص أيضا حجم المواد الأساسية في السوق مع رفع تدريجي للدعم، باعتبار أن عدم وجود الخبز المدعم في السوق هو شكل من أشكال رفع الدعم”.
واعتبر المحلل السياسي أن “ما يقوله الرئيس سعيد هو خطاب رسمي، في المقابل، تقوم الحكومة بعقلنة الدعم ومواجهة التعيينات في مختلف الإدارات للضغط على كتلة الرواتب، لكن هناك ملف وحيد محل احتراز من
الصندوق وهو وضعية المؤسسات العمومية، هل ستتم خصخصتها بالكامل أو جزئيا، فضلا عن مصيرها وهي التي تكلف الدولة مقدارا هاما من الدعم”.