بوادر انفتاح محسوب تختبر شعبية الإعلام المصري

القاهرة – يوحي المشهد الراهن في مصر بأن ثمة تغيرات في رؤية السلطة لدور وسائل الإعلام على مستوى التغطية الصحفية للقضايا الحيوية، ولوحظ وجود انفتاح محسوب وتحرر من بعض القيود المفروضة على الإعلام مؤخرا، وبات يُسمح بمناقشة موضوعات خلافية وقوانين ومقترحات حكومية متحفظ عليها مجتمعيا.
بالتوازي مع ذلك يظهر خط تحريري منفتح في صحف ومواقع إخبارية مملوكة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، التابعة لجهات حكومية، وأصبح يتم إجراء حوارات مع شخصيات فاعلة ومعارضة في المجتمع لها تحفظات على خطط وأفكار وتصورات وسياسات كان يروج لها إعلام السلطة، بما يوحي بعدم الممانعة في قيام وسائل الإعلام بدورها المهني، شريطة عدم الشرود السياسي.
لم يعهد الجمهور المصري المتابع لبرامج تلفزيونية استضافة خبراء ومتخصصين للنقاش حول قضية عليها تحفظ شعبي، مثل تطبيق نظام البكالوريا الجديد، وبدأت بعض المنابر تفتح المجال لأي معترض على الفكرة للإدلاء برأيه وتوجيه انتقادات لخطة الحكومة، مع أن تلك القنوات مملوكة لجهة رسمية في الدولة.
وفُتح المجال أمام صحف ومواقع إخبارية لتغطيات متزنة لملفات وقضايا جماهيرية، وتم استخدام مصطلحات كانت محظورة، فالكثير من الصحف عند تغطياتها للامتحانات في المدارس لم تكن تستخدم وصف “تسريب” الأسئلة عبر وسائل غير شرعية، وأصبحت تتهم صراحة وزارة التعليم بالإخفاق في تأمين الامتحانات.
وهناك ملفات أخرى تتم مناقشتها بالطريقة ذاتها، بعيدا عن تجميل الصورة، والبحث عن ضيوف يروجون لوجهة نظر الحكومة وتمرير رؤيتها ومحاولة إقناع الشارع بها، وإذا استضافت بعض البرامج مسؤولين تتم محاورتهم بشكل بعيد عن “الطبطبة” وعدم مواجهتهم بغضب الشارع من سياساتهم.
وقال رئيس تحرير برنامج تلفزيوني بقناة تابعة للشركة المتحدة لـ”العرب” إن المسؤولين عن قطاع البرامج عقدوا اجتماعات مع العاملين في القنوات وأبلغوهم بأن طريقة تناول القضايا الحيوية سوف تختلف بشكل جذري، وأبلغوهم أيضا بأن “ما كان يُقّدم من إعلام لن يستمر، وهناك تغييرات جذرية.”
وأضاف، شريطة عدم الكشف عن هويته، أن هناك قائمة ممنوعات كان يتم العمل وفق إطارها، لكن الأمر تغير كثيرا، “أبلغونا بفتح المجال للمنتقد والمؤيد للإدلاء برأيه في موضوعات جماهيرية، ولا تفرضوا وجهة نظر واحدة على الناس، ولو كان هناك رفض شبه جماعي لتوجه حكومي بعينه، قولوا للناس ذلك.”
ويصعب فصل هذا التغير عن استعانة الحكومة المصرية بوجوه جديدة على مستوى قيادة المنظومة الإعلامية، حيث جرت تغييرات في قيادات المجلس الأعلى للإعلام والهيئة الوطنية للإعلام، والشركة المتحدة للخدمات الإعلامية التي تستعين بمجموعة من الكوادر الإعلامية المعروفة عنها المهنية والشغف بتطوير المحتوى.
وتعهدت الحكومة عند تباحث مسألة تغيير رؤساء الهيئات الإعلامية بأنها لا تمانع الانفتاح، ومع وضع مجموعة ضوابط تتمثل في أن تكون الانتقادات موضوعية وتضع حلولا للمشكلات، وأن الإعلام يمكن انتقاده لوضع سلبي ويقدم البديل المناسب بحيث لا تتحول المنابر إلى “معارضة من أجل المعارضة فقط.”
المهم عند الحكومة أن تكون مساحة الحركة الممنوحة للإعلام المحلي مشروطة بسياسة تحريرية لا تقدم خدمة مجانية لجهات معارضة ولها خصومة مع الدولة، مثل جماعة الإخوان، أو التطرق إلى قضايا حساسة تلامس مقتضيات الأمن القومي، ولا توجد موانع لمناقشة ملف يرتبط بالاقتصاد والمجتمع وتصورات الحكومة عموما.
وهذا التغير لا يزال طفيفا وأمامه شوط طويل للتأكد من جديته، وعلى العكس هناك قناعات لدى دوائر رسمية بأن الطريقة التي كان يدار بها الإعلام ودرج فيها على مدح كل تصورات الحكومة وتصرفاتها غير حكيمة ولم تحقق أهدافها، ومن الصعب التسويق لإنجازات والناس يشكون من صعوبات وإخفاق يتجاهله الإعلام.
ويعتقد مراقبون أن النظام المصري لم يعد يشعر بارتياح للمردود الذي تقدمه وسائل الإعلام، ولا يمكن أن تكون الصحف والقنوات في وادٍ وشبكات التواصل الاجتماعي تغرق في انتقادات وسلبيات من صنيعة جهات رسمية، دون أن يكون للإعلام دور في مناقشتها وتفنيدها بطريقة متزنة وعاقلة تعيد إلى المنابر قدرا من شعبيتها.
وفقدت الكثير من الصحف والمواقع الإخبارية الحكومية والخاصة في مصر جزءا من بريقها عندما أصبحت غير قادرة على تحسين محتواها بسبب القيود المفروضة عليها، وعلى الرغم من إنفاق أموال طائلة بغرض تطويرها وتغيير خريطتها البرامجية سار الجميع في فلك الحكومة دون وجود الحد الأدنى من التوازن والحياد.
الحريات الإعلامية لا يجب أن تكون مصطنعة بل يجب أن تأتي من قناعة لدى كل الأطراف، ومن الخطأ رهن الانفتاح بظروف سياسية واقتصادية معينة
كما أن الانفتاح المحدود الحاصل في بعض المنابر الإعلامية حاليا، يعكس قناعة السلطة بحتمية وجود أصوات مختلفة وتعمل بقدر من المهنية، خاصة وأن لديها قنوات وصحفا كثيرة يمكن أن تقوم بعضها وفق سياسة تحريرية منفتحة وأخرى تلتزم بالدفاع عن الحكومة، بما يحقق التوازن المطلوب.
وتظل الإشكالية الحقيقية في هوية بعض الإعلاميين الذين دأبوا على مدح الحكومة وهم أنفسهم يقومون حاليا بتوجيه انتقادات لها، ما يقلل من مصداقيتهم عند الجمهور جراء هذا التغير المفاجئ الذي يثير تساؤلات عديدة حول أسبابه ودوافعه والمدى الذي يمكن أن يذهب إليه، وما إذا كان ذلك بموافقة رسمية أم عن قناعة شخصية من هذه الوجوه.
وأكد نقيب الصحافيين الأسبق يحيى قلاش أن الحريات الإعلامية لا يجب أن تكون مصطنعة بل يجب أن تأتي من قناعة لدى كل الأطراف، ومن الخطأ رهن الانفتاح بظروف سياسية واقتصادية معينة، ويجب أن تقتنع الدوائر العاقلة في السلطة بأن وجود حريات مفيد لها، لأنها توسع بصيرة الحاكم وتجعله يتحرك بحسابات دقيقة.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أنه في ظل وجود مؤسسات إعلامية تؤمن بالاصطفاف خلف السلطة يجب وجود أخرى لديها صبغة معارضة بما يحقق التوازن في المشهد الإعلامي، لكن الأهم أن تكون هناك رؤية وإرادة تكرس الانفتاح بسن تشريعات ضرورية، أهمها حرية تداول المعلومات بلا قيود.
وظلت الحكومة متخوفة من الانفتاح الإعلامي حتى اقتنعت بأن الحريات البناءة والمنضبطة لن تجلب مخاطر سياسية، والدليل على ذلك وجود أصوات معارضة في الحوار الوطني تقول ما تشاء ولم يتسبب ذلك في تأليب الرأي العام ضد الحكومة، أو الاحتجاج عليها في الشارع، وهو ما تسعى إلى تطبيقه في الإعلام بخطوات محسوبة.
ويتفق أغلب أبناء المهنة في مصر على أن العبرة في الانفتاح أن يكون مبنيا على أسس وقواعد وليس مجرد ارتباط التحرر بظرف سياسي معين، فإصلاح المهنة ينطلق من وجود أدوات تسهل مهمة العاملين بها على التحرك بأريحية، طالما أن ذلك ينطلق من أرضية وطنية بعيدة عن تقديم هدايا مجانية لخصوم السلطة.