بهائيو تونس في مواجهة مفتوحة مع السلطات لانتزاع اعتراف رسمي بهم

اصطدم بهائيو تونس بواقع مرير في أعقاب ثورة 14 يناير 2011 التي كانوا يعوّلون على المكاسب التي أفرزتها من أجل الظهور إلى العلن في مجتمعهم، لكن الأمور تعقّدت أكثر بعد أن كفّرتهم السلطات استنادا إلى فتوى من مفتي الديار التونسية، ما جعلهم يصعّدون مع ممثلي الدولة بمقاضاتهم من أجل منحهم ترخيصا للجمعية البهائية بغية مباشرة نشاطاتها.
تونس – نددت الجمعية البهائية التونسية في ندوة صحافية الثلاثاء بـ“التكفير” الذي يتعرض له تونسيون من قبل دولتهم وفق قول متحدثين باسمها، وذلك في أحدث تصعيد مع السلطات التي ترفض منحهم رخصة حتى تباشر جمعيتهم أنشطتها.
واتهم ممثلو الجمعية مفتي الديار التونسية عثمان بطيخ من خلال وثائق رسمية بتكفيرهم لما ينطوي عليه ذلك من تداعيات على معتنقي الدين البهائي في البلاد الذين لا توجد أرقام رسمية تكشف تعدادهم بوضوح، غير أن تصريحات من هنا وهناك تقول إن عددهم لا يقل عن الـ25 ألف بهائي.
وبالرغم من أن الثورة التي أطاحت في العام 2011 بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي منحتهم أملا في أن يخرجوا إلى العلن دون أي تضييقات غير أن البهائيين في تونس لا يزالون يعانون تهميشا متزايدا من السلطات في ظل التلكؤ في منحهم ترخيصا لجمعيتهم.
ويشدد هؤلاء على أنهم يعملون وفق احترام دستور البلاد المصادق عليه منذ 2014، وقد ساهموا أصلا في صياغته، لكن السلطات ترفض تمتيعهم بحقهم الدستوري.
دولة تكفر مواطنيها
منذ أن تمّ إقرار دستور 2014 أعلن بهائيو تونس معاركهم مع السلطات، ففيما كفل هذا الدستور حرية الضمير والمعتقد وشاعت أجواء من التفاؤل لدى الأقليات الدينية والجنسية على حدّ السواء تمسكت السلطات بعدم منح البهائيين رخصة من أجل التنظُّم في إطار جمعية قانونية.
يقول محمد بن موسى، عضو المكتب الإعلامي للجمعية البهائية في تونس، إن “جمعيتنا أهدافها الحفاظ على وحدة الوطن ودعم المساواة التامة بين الجنسين، والسعي إلى تعزيز جهود الدولة في إقامة توافق بين الأديان، هذه مبادئنا. لكن صُدمنا بعدم منحنا الترخيص لتسجيل جمعيتنا لا لشيء إلا لأن اسمها لم يعجب السلطات”.
وحمّل ممثلون عن هيئة الدفاع عن الجمعية البهائية خلال الندوة الصحافية الثلاثاء مفتي الديار التونسية المسؤولية مؤكدين أنهم سيلاحقونه ورئيسي الحكومة هشام المشيشي والسابق إلياس الفخفاخ، قضائيا بتهمة ارتكاب جريمة إرهابية وفق تعبيرهم.
ويؤكد محمد بن موسى في حديثه لـ“العرب” أن “السلطات طلبت منا حذف كلمة بهائية، هنا قررنا اللجوء إلى المحكمة الإدارية باعتبارها الفيصل في مثل هذه النزاعات فأنصفتنا المحكمة، وهذا رائع لكن في طور الاستئناف حدثت أشياء لم نتوقعها”.
ويوضح “في تلك المرحلة اكتشفنا وثائق تثبت تكفير مفتي الديار التونسية ووزير الشؤون الدينية ورئيس الحكومة لنا ووصفهم لنا بأننا كفار ومرتدون، وهنا المصيبة فهذا يعتبر إرهابا لأنهم من خلال هذا التكفير يعرضون حياتنا (للخطر).. وانطلاقا من هذه المعطيات قمنا بإيداع شكاية ضدهم استنادا إلى قانون مكافحة الإرهاب”.
ويشدد محمد بن موسى على أن قضيتهم هي قضية مواطنة تهم كل تونسي لا البهائيين فقط، فالدولة وفقا لمحدثنا عليها أن تحمي كل المواطنين من خلال إقامة مساواة حقيقية بينهم سواء في الحقوق أو في الواجبات.
ووفق الموقع الرسمي للبهائيين “البهائيون في تونس” يعود تاريخ ظهور البهائيين في تونس إلى العام 1921 مع قدوم محيي الدين الكردي، وهو بهائي مصري من شيوخ الأزهر، أتى لينشر رسالة بهاء الله مؤسس الدين البهائي.
ممثلو الجمعية البهائية التونسية اتهموا مفتي الديار عثمان بطيخ بتكفيرهم من خلال وثائق رسمية بما ينطوي عليه من تداعيات على معتنقي الدين البهائي في البلاد
ومنذ ذلك الحين، قرر العديد من التونسيين اعتناق الديانة البهائية من خلال نشر رسائلها إلى الأصدقاء والزملاء في العمل وغيرهم، لكن السلطات تمتنع عن منحهم ترخيصا لممارسة نشاطاتهم في العلن حتى بعد نيل تونس استقلالها في العام 1956.
وفي مقابل عدم الاعتراف بهم، لم تفتح السلطات مواجهة معهم من خلال التضييق عليهم أو غيره من الممارسات، إلى أن تم إقرار قانون حول “الاجتماعات العامة والمواكب والاستعراضات والتظاهرات والتجمهر” في العام 1969 ما أدّى إلى حل المحفل الروحاني الإقليمي لشمال أفريقيا ومقرّه تونس.
ولم يستسلم معتنقو البهائية لهذه الخطوة حيث أعادوا فتح المحفل خلال انتخابات 1972 قبل أن يُغلق المركز البهائي العام في العام 1984، لكن المحفل الروحاني المركزي واصل عمله على الرغم من عدم توفّر رخصة قانونية إلى حين كتابة هذه السطور.
اعتراف قانوني ومقبرة
يختزل البهائيون في تونس على لسان أعضاء الجمعية البهائية، التي لا تزال تبحث عن اعتراف رسمي من السلطات، مطالبهم في اعتراف رسمي بهم ومقبرة خاصة كذلك باعتبار أن لهم طقوسهم الخاصة لدفن موتاهم.
يقول محمد بن موسى “نحن لا نريد شيئا، نريد إقامة دولة قانون، فبأي حق يتمّ تكفير مواطنين من قبل السلطات وبوثائق رسمية؟ أن يكفرك مواطن عادي فهذا قد يكون أمر طبيعي بالرغم من المخاطر الناجمة عن ذلك، أما أن تكفرك الدولة فهذا خطير جدا”، موضحا أنهم في تونس اليوم في مفترق طرق حيث يحتاج المجتمع إلى تفعيل مبدأ التنوع من خلال الاعتراف بالأقليات و“نحن مواطنون متساوون مع التونسيين ومن مبادئ ديانتنا الولاء للدولة لذلك نريد اعترافا رسميا بنا”.
وترى سناء لطيف، وهي عضو في المكتب الإعلامي للجمعية البهائية، أن البلاد لا تحقق في الظرف الراهن أي تقدم قائلة “بل العكس في ظل تكفير الدولة لمواطنيها فهي تتأخر”.
وتؤكد لطيف في تصريح لـ”العرب” أن مطالبهم تشمل مقبرة خاصة بهم لأن مراسم دفن معتنقي الديانة البهائية ليست مثل مراسم دفن المسيحيين أو المسلمين أو غيرهما موضحة أن الهدف المنشود حاليا هو ضمان العيش الكريم لمعتنقي البهائية والذي يتمّ العمل عليه مع العديد من منظمات المجتمع المدني من أجل بلوغه.
وبالرغم من أنهم ظهروا أكثر للعلن منذ الثورة من خلال تنظيم ندوات صحافية وغيرها من الأنشطة غير أن البهائيين لا يُعرف عنهم الكثير في تونس، لكن ذلك لا يمنعهم من التعريف بأنفسهم.
وتقول سناء لطيف إن “من سمات البهائيين أنهم لا يخفون هوياتهم، نحن لا نخفي ديانتنا، عندما يقع سؤالنا مثلا لماذا تصومون في مارس نجيب بأننا بهائيون، عندما يقع سؤالنا لما لا تؤدون فريضة الصوم في رمضان نكشف كذلك أننا بهائيون”.
وتضيف “لذلك نحن ليس لدينا إشكال مع كشف هويتنا، ونحن ندين بالولاء للدولة، لكن عموما التونسي عندما تقول له إنك بهائي يغض الطرف حينا، وأحيانا أخرى ينزعج لأن هناك من يعتبر أن في بلادنا 99.99 في المئة هم مسلمون”.
ويرى مراقبون وخبراء أن قرار السلطات التونسية القاضي بعدم منح البهائيين ترخيصا من أجل التنظُّم في جمعية يؤسس للإقصاء بما ينطوي عليه ذلك من مخاطر على التعددية المنشودة في البلاد بعد ثورة 14 يناير 2011.
نسف للتعددية
في الواقع، لم يزد رفض السلطات منح هؤلاء ترخيصا لجمعيتهم إلا إصرارا على افتكاك حقوقهم بمختلف الطرق التي يمكن اتباعها، ففي البداية اختار البهائيون توجيه رسالة في العام 2017 إلى الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي من أجل التظلم لديه من التمييز على أساس الدين.
لكن اليوم اختار هؤلاء التصعيد بمقاضاة الدولة التونسية وممثليها الذين كشفوا في وثائق رسمية “كفر” البهائيين وهو ما يخالف الدستور وفقا لهؤلاء.
واعتبر هادي يحمد، الكاتب والباحث التونسي المتخصص في الحركات الإسلامية، أن قضية عدم منح ترخيص للجمعية البهائية يكشف الفخاخ التي وضعت في الدستور التونسي وتناقض بنوده قائلا “في حين يمنح البند السادس من هذا الدستور الحق في حرية الضمير بما يعنيه اعتناق أي ديانة أو التخلي عن أي ديانة، وفي حين أن الفصل 35 يقر صراحة بحرية تكوين الأحزاب والجمعيات، فإن رئاسة الحكومة تستند في شخص الكاتب العام على البند الأول من الدستور الذي يقول بأن الدولة دينها الإسلام”.
ويتابع يحمد في تصريح لـ”العرب” أن “كتابة الدولة لجأت إلى إدارة الإفتاء لدعم رأيها والحكم بخروج هذه الجمعية عن دستور البلاد في بنده الأول، أعتقد أن منع الترخيص مبني على تأويل معين للنصوص الدستورية والذي يصب في اتجاه الأحادية ورفض التعدد المذهبي والديني وهي القراءة التي اُسْتند عليها في فترة ما قبل الثورة لمنع أي ترخيص لأي جمعية وتواصل القوى المحافظة الماسكة بالسلطة اليوم اعتماد نفس التأويلات الرجعية للبند الأول للدستور”.
وبالرغم من الإشادات الدولية والأممية بما أنجزته تونس خلال عشرية ما بعد الثورة من تكريس للحريات العامة إلا أن ما يحدث من تضييقات للأقليات الجنسية والدينية يُنذر بفشل التجربة الديمقراطية التي يرهن البعض نجاحها باحترام تام للحريات سواء كانت عامة أو فردية.
وحاول الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي تحديث منظومة الحريات الفردية والحقوق في تونس من خلال بعث لجنة خاصة في العام 2017، غير أن مخرجات ذلك التقرير لا تزال حبيسة أدراج البرلمان، ومن غير المتوقع أن تخرج للمناقشة والمصادقة عليها في ظل هيمنة المحافظين على المجلس النيابي المنقسم أصلا.
ويقول هادي يحمد إن “تداعيات عدم منح هذه الجمعية ترخيصا تصب في اتجاه تكريس أحادية الرأي والمعتقد وتقمع أي تعدد في المجتمع التونسي بما يجهض أي دمقرطة داخل المجتمع لتبقى الديمقراطية شكلية في المستوى السياسي بين الأحزاب” مضيفا أنه “حتى في هذا الجانب أي الجانب السياسي فإن البند 74 من الدستور يشترط أن يكون رئيس الجمهورية مسلم الديانة وهو الذي يكرس كما أسلفت أحادية الرأي والدين وينسف أي تعدد في الدولة والمجتمع”.
ويستنتج أن معركة الحريات العامة والفردية هي في قلب ما تعيشه تونس من تحولات في العشرية الأخيرة قائلا “أعتقد أن نجاح أي تجربة ديمقراطية في تونس هو رهين فرض الحريات وتحوير التشريعات القمعية وتركيز دولة مدنية علمانية في تونس تمثل صفة المواطنة فيها هي المقياس الوحيد للاعتراف والمساواة بين التونسيين”.