بسام كيريللس يقهر الزمان والمكان في معرض "أكوان"

تقدم صالة “مارك هاشم” في العاصمة اللبنانية بيروت حاليا معرضا للفنان اللبناني بسام كيريللس، جاء تحت عنوان “أكوان” ويضم مجموعة فذة من أعماله النحتية الجديدة مختصرا فيها تجربته الفنية وأفكاره الغزيرة عن الإنسان والكون والحياة.
بيروت – تمهيدا لمعرض الفنان اللبناني بسام كيريللس الجديد المعنون بـ”أكوان” والمقام حاليا في صالة “مارك هاشم” البيروتية، كتب القيمون على الصالة “تشير دراسة علمية إلى أن المادة التي تشكل كل شيء لا توجد بالفعل، ولكننا نعيش في مساحة من الصور المجسمة التي تتكون وفقا لأفكار كل فرد.. الكون الذي نعيش فيه بدأ مع ‘الانفجار الكبير’، الذي نتج عنه المكان والزمان وبعد ذلك جاءت الطبيعة والحياة ذات الطبيعة العنيفة، وبدلا من الحتمية في عالم متعدّد الأكوان يحكمه العنف، يستمد الواقع وجوده من الأفكار والمعلومات والوعي”.
هذا باختصار شديد ما نبع عنه معرض الفنان اللبناني بسام كيريللس الذي لأول مرة حضن في معرضه أصول كافة تجاربه الفنية وأفكاره الغزيرة والمُتناغمة إلى حد كبير، لذلك لا يمنع بعد زيارة هذا المعرض أن نطلق على الفنان صفة أفضل نحات عربي معاصر على الإطلاق.
غبار كوني
في معارضه السابقة، وخاصة معرضه الأخير الذي حمل عنوان “فوضى”، أقام بسام كيريللس حوارا بين الداخل والخارج، أما في معرضه الحالي فالحوار والتقاطع هما بين عوالم افتراضية متعددة يصبح فيها الإنسان نقطة التواصل وجسر العبور المفكك تشكيليا بتقنية النحت الغائر والنحت النافر.
وتكاد أشكاله تقف في الفراغ من تلقاء ذاتها لشدة تمرّس الفنان بنحت الفراغ حتى بات هذا الأخير حيزا بارزا له قيمته التشكيلية، فلدى رؤية هذه المجسمات يجد زائر المعرض نفسه يتساءل إن كان الفنان سيقدم يوما ما معرضا مبنيا بشكل بارز جدا على هذا الفراغ من خلال استخدام “الرزين” الذي يطعم به كيريللس أعماله الحالية.
كما يتساءل كيف ستكون أعمال الفنان إن هو استخدم الصدأ كمادة أساسية لتشكيل أفكاره بصريا، مادة سيبرع من دون شك في استخدامها النحات اللبناني بعد النهل من كل المعلومات التي تتعلق بها ونهب كل ما يتصل بتجلياتها رمزيا وماديا.
أما “الغبار الكوني”، تلك المادة التي تسرّ نوافذها المفضية إلى ذاتها والتي لا زالت تشغل وتحير فكر العلماء، فلا بد أنها ستجد طريقها يوما ما إلى فن كيريللس ليبدع في هيئاتها المحتملة.
كيان إنساني
لعل الكتابة عن أعمال الفنان بسام كيريللس في سطور قليلة تشكل تحديا كبيرا لكل كاتب انكب على المواضيع الشائكة التي تطرق إليها الفنان، والتي تتداخل مع بعضها البعض بشكل يصعب فكاكه.
وبسام كيريللس، ابن جيل الحرب بامتياز وهو المولود سنة 1975، قبل أن يشرع في تطوير فنه وصياغة أواصر علاقته مع الواقع والغيب على حدّ السواء، نحتت الحرب اللبنانية وكل ما تلى من حروب في المنطقة العربية بشكل خاص ذاكرته وتجاربه الوجودية.
وتشكل منحوتاته التي تجسد مسجد الأقصى مثالا للأعمال المتعالية على مفهومي الزمان والمكان، كما تشكل أرضا لا محدودة مزروعة بالإخفاقات والبطولات التي صهرت معدن الإنسانية جمعاء.
ويقدم الفنان في معرضه الأخير هذا اقتناعه بوجود عوالم كثيرة غير تلك التي نعيشها، إذ يتمكن عبر منحوتاته من أن يحقق بصريا مفهوم “العولمة” الذي لاكته الألسن والكتابات والأكاذيب الكثيرة ليصبح إنسانه شبيها بإنسان ليوناردو دافينشي ومحورا للعالم النابض.
الإنسان في معرض "أكوان" هو نقطة التواصل وجسر العبور المفكك تشكيليا بتقنية النحت الغائر والنحت النافر
أما نسخة كيريللس لـ”بيتروفيتن مان” فتجلت في أعماله عبر تعالي تلك النسخة “المعدنية” على الحروب المُدمرة جميعها نافية الاحتياجات المادية ومشمئزة من الأطماع التوسعية غير تلك التي تجعل من الفكر والصفاء الروحي مجالا لاحتدامها.
“إنسان” بسام كيريللس بوسامته الإنسانية هو “السوبر هيومن” أو “الترانس هيومن” البعيد كل البعد عن هرطقات البطولات الهوليوودية المتعالية، هو إنسان مشحون بألم البقاء ولكنه في الآن ذاته فائق القوى والانتشار، أما مهمته الأولى فهي الوقوف أمام جحيم الآنية المقيدة بسلال الآن وهنا، ومواجهة تعددية الحقائق والعوالم التي تدحض بوجودها مقولة أن ما نعيشه هو الحقيقة البحتة في عالم هو الوحيد الممكن.
كيان إنسان كيريللس خلع آنيته، تخطى جسده بعد أن عاش ظلماته القصوى ليتغلغل في جسد العالم مصفحا بوعيه التام بأن العالم بالصيغة الرديئة التي نعيشها قابل في أية لحظة ولأي أدنى سبب للتحول، ليس إلى نقيضه فحسب، بل إلى ما لا يتسع الخيال البشري لتلقفه.
ويدرك إنسان كيريللس، الحاضر في جميع منحوتاته بشكله البشري أو في هيئة صروح ومبان وساحات متعرجة، أن هذا الوعي كان سيستحيل حدوثه لولا وصوله إلى مستوى متقدم من التطور.
وما التطور إلاّ هذه الحالة الهجينة التي انصهر فيها الروحي مع التقني، وهكذا أصبحت الشيفرات الإلكترونية والتيارات الكهرومغناطيسية في عالم الفنان لغة الإنسان الأكثر إنسانية وليس العكس على هوى ما يراه معظم الحذرين من التطور المعلوماتي والتقني.
صمت متقع
تذكر أعمال الفنان اللبناني بسام كيريللس بأفكار الفيلسوف الفرنسي جان بودريار، لاسيما تلك التي تتعلق بكوننا كبشر نعيش في عالم تحكمه صور هيولية كاذبة لا تعكس واقع الوجود، أو على الأقل لا تعكس إلاّ نسخته الرديئة.
وفي حين يبني جان بودريار صرحه في كتاباته وفي مجموعة صور فوتوغرافية رائعة، يصيّر كيريللس عالمه بالمادة، “المادة” الصلبة كالباطون والمعدن والنحاس والألومنيوم، أما بلاغتها -أي بلاغة الأعمال- فمُتأتية من أنها في كينونتها وتجلياتها البصرية أثيرية/ مفهومية/ فلسفية/ روحية مجسدة من، وبعقر دار المادة الأكثر برودة وصلابة، ومن هنا أيضا نعثر في أعماله على تلك الخصوصية المعاصرة التي تلفح جميع أعماله.
المكان عند كيريللس هو الوجود وليس الجغرافيا ومن هذا المفهوم بشكل خاص تنطلق أعماله خارج ذاتها لتلامس المُجرد والغيب ولتحتفي بحضورهما حضورا طاغيا.
أما الزمن فهو عند كيريللس بسرعة الضوء التي “تلوي” المعدن والمواد الصلبة وتتكثف في قطع نحتية متقاطعة ومنفصلة عن بعضها البعض لتؤرخ زمنا مضغوطا ومتوسعا في آن واحد، هكذا تبدو أعماله كلها وكأنها انبثاقات وليس تحقّقات دنيوية ملزمة بقوانين أرضية.
ويتمثل هذا الانبثاق فنيا في حالة التفجر الدائمة في أعماله حتى في تلك الأعمال التي توحي بأنها ثابتة وغائصة في صمت متقع، تفجرا يذكر بتشظي القنابل وبحدة رؤوسها التي لا يعتريها تبدل مع مرور الزمن وتحمل في مشهدها آثار الجراح التي سببتها أو أخفقت في تحقيقها.
تأخذنا أعمال بسام كيريللس إلى الفيلم الشهير “سفير” أي “فلك”، حيث يصبح الإنسان صانعا لعالمه لحظة التفكير فيه، فما يشعر به يراه وما يخاف منه أو يتمناه يتجسد في هيئة واقعية تامة، واقعية تفرض عليه الشكوك وسلسلة من المواجهات النفسية مع الذات بغية السيطرة على قدره والخلاص من حتمية العوالم الجحيمية التي يخلقها عقله وتنشئها مخاوفه الأكثر عمقا في لاوعيه.
وكما في فيلم “فلك” يعطي الفنان اللبناني للمطلق جسدا ويهب للشك وجها، ويعطي للافتراضية قالبا معدنيا صلبا، أما الشفافية التي لا بد من وجودها في عوالم تتحدث عن الخفي والمستقبلي والغيبي فيفوّض الفنان أمرها وأمر تظهيرها لمادة “الرزين” التي تكاد تكون “مادة” الوعي في نص بسام كيريللس البصري.
ولا ينحى الفنان في مجمل أعماله إلى التشاؤم، فنفحة الأمل مُتأتية من وسامة الوجوه أو الأقنعة التي ينحتها، حتى أقنعة كيريللس هي حقيقية وصادقة وهي خلافا لما تعنيه الأقنعة تبدو كأنها “زبدة” لروح وقد طفت إلى سطح الوجوه.
ونذكر هنا العمل الذي ينحت فيه وجها في فلك يمثل كوكب الأرض وقد أنسنه بسام كيريللس وأعطاه وشاح النبل والأمل، فإذا به ينطق وكأنه يقول “أنا المادة التي تفكر”، إنها معجزة الحياة في لوحاته المنحوتة وقد تخطت حدودها المادية/ الآنية.